معضلة التمييز في نظرية التطور

0
جزء رئيسي في رفض خصوم نظرية التطور لها هو أنهم لا يتصورون شراكة بين أنواع مختلفة بعينها يراها في الحس البدهي كائنات متمايزة ومغايرة لبعضها البعض، فالعين لديه أبصرت حمارا لا يمكن أن يوجد بينه وبين الكلب صلة، هنا يكون الرفض قائم على أن حس ذلك الإنسان قاده (للتمييز) بين الكائنين سواء في الشكل واللون والسلوك وحتى مردود إسمه في نفسه المتوارث منذ آلاف السنين..

مثلا فانطباع لفظ الحمار في نفس الإنسان يشي فورا بحضور الغباء والصوت القبيح والرأس الكبيرة..وخلافه، كذلك فانطباع لفظ الكلب الأوّلي يعني النباح والعضّ والأكل من الجيف، خلافا لانطباع آخر حادث ثانوي وهو الوفاء لا يكون معيارا وتقييما للكلب لأنه يكون لاحق للانطباع الأول، لذلك فالإنسان يغضب إذا وصمته بالكلب والحمار لأن انطباعه عن هذين الكائنين جاء (بالتمييز) البدهي الأوّلي الذي كان فيه للشكل عاملا كبير، بينما لو قلت له أن وصفك بالحمار يعني الهدوء والطيبة أو وصفك بالكلب يعني الوفاء لن يقتنع وسيثور ضدك باعتبارك شخص متلاعب بعواطفه محتقرا لعقله..

هذا السلوك وتلك الرؤية هي التي أقصدها ب "معضلة التمييز" في نظرية التطور، لأن خصوم النظرية تعاملوا معها كما يتعامل الشخص الطبيعي الموصوف بالكلب والحمار، ذلك لأنه يرى نفسه مختلفا بشكل كلي عن الشمبانزي..فلا يمكن إقناعه بسلف مشترك بينه وبين ذلك المخلوق الذي يراه في حديقة الحيوان محبوسا في القفص ويرمي له الزبائن طعامهم وفضلاتهم أحيانا، وقتها يشعر بالامتهان..كذلك فانطباع لفظ القرد على نفس الإنسان وسماعه فورا يترجم بحضور القفز الدائم والصراخ مع الأسنان الكبيرة والفم الواسع، تأثيرات كلها تصبح دوافع لرفض أي كلام يجمعه مع ذلك المخلوق في صلة قرابة حتى لو كان علميا.

فمواقف هؤلاء بالأصل نفسية خلافا لو زعمت أن أصول البشرية مثلا تجمعهم بسلف مشترك مع "الطاووس" ذلك الطائر الجميل المنتفخ غرورا بقوته وبهاء منظره، ستقل حدة رفضه عن الحالة الأولى التي وصفته فيها بالقرابة مع الشمبانزي..رغم أن مستوى ذكاء الشبمانزي أكبر بكثير من مستوى ذكاء الطاووس ، لكن غضبه المذكور لن تراه في حال شبّهته بالطاووس لحضور الجمال والغرور اللائق والمقبول في النفس كأن الإنسان يحب أن يكون غبيا وجميلا في ذات الوقت لكنه يكره أن يكون ذكيا قبيح المنظر، ولا يعني ذلك أنه سيقبل فكرة جمعه بذلك الطائر علميا..لكنه في الأخير لن يغضب ولن يتعصب، فقط سيرفض هادئا واثقا أنه لا أحد في المجتمع العلمي يقول بذلك فلا شئ يهدده إذن، وبالتالي فعندما يغضب ضد التطور ويكافح للرد عليها بكل الوسائل الممكنة بالصدق كان أو الكذب، بالسلم كان أو العنف فهو في الحقيقة يشعر بالخوف من المجتمع العلمي من ناحية، ومن ناحية أخرى يرى نفسه أفضل شكلا وسلوكا ممن قالت النظرية بقرابتهم معه..

والدليل على ذلك أن نطلب من خصوم النظرية أن يسافروا عبر الزمن وتحديدا في العصر الكامبري وما لحقه بالانفجار الكامبري وقارة "بانوتيا العظيمة" هل سيقبلون فكرة أن كائنا رخويا بسيطا وصغيرا يشبه "الدودة" سيكون هو أصل الحياه والديناصورات؟..بالحس البدهي لن يقبل، لأن معضلة التمييز لديه تشكلت عبر آلاف وملايين السنين بصورة ذهنية هي بالأساس نتيجة لمشاهدة اجتماعية للأشياء، ويمكن التفريق في ذلك بين المشاهدة العقلية وما ينتج عنها من متابعة سلوكيات وأشكال حية وبين ملاحظة جمادات كقبوله مثلا أن تكون جميع القارات الحديثة أصلها قارة واحدة تفككت قبل 600 مليون سنة اسمها "بانوتيا" ثم يمر عليها مئات السنين لتنقسم جزئيا وتصبح "قارة بانجيا"..وهكذا لا مشكلة لديه في قبول تلك الفرضيات العلمية.

أما أن يقبل كائنا متحركا بشكل وميزات معينة بآخر فسيرفض لحضور صور ذلك الكائن بصفات هي عارض للعقل أساسا كالشكل الثابت والمتغير مصحوبا بالسلوك وصفات أخرى كالصوت والنمو والتكاثر..إلخ، كل هذه تصنع صور ذهنية عند خصوم التطور تجعلهم مبدئيا يرفضون قاعدة المشاركة بين الأنواع أو بينهم جميعا سلف مشترك، وهذا ربما الذي دفع البريطاني "فيلمنغ جنكين" ت 1885 م في الشك بالتطور وكتب ما يعرف ب "كابوس جنكين" أو "الحجة الغارقة" المعارضة لمحور آليات التطور المعروف "بالاصطفاء الطبيعي" الذي يقول فيه أن اختلاف الصفات الوراثية بين الأنواع لا يمكن أن تحدث بالانتقاء الطبيعي وكتب في ذلك ما اعتمد عليه خصوم التطور بعد ذلك، وبدون سرد آراء جنكين لكنه في رأيي تأثر كما يتأثر كل خصوم النظرية بالصور الذهنية المترسبة في وعيه عن الكائنات واستنتج بذكائه العلمي أن الانتقاء وهم..

مثلما نشرت المجلة البريطانية للعلوم سنة 2004 تحقيقا عن حجة جنكلين الغارقة وفيه أن أن الرجل يفترض حدثا عنصريا كدخول رجل أبيض جزيرة للسود وعدم قدرة ذلك الرجل الأبيض على توريث ذكائه لأكثر من خمسة أجيال على الأرجح في حال تزاوجه من إناث الجزيرة السود، وتم اعتبار مثال جنكلين هنا عنصريا لظهوره في زمن ما قبل تحرير العبيد، لكن فرضيته كانت علمية مثيرة بالفعل ألهمت عديد من معارضي التطور – عن طريق التمييز ومعضلاته – بأن داروين كان مخطئا بقوله في الاصطفاء الذي لا يمكنه توريث الصفات لأكثر من 4 أو 5 أجيال لكن بنتائج داروين فهو يقول أن الوراثة تظل لآلاف الأجيال..

كانت حجج داروين وجنكلين بالعموم شكلية بالتمييز، لأن الدراوينية أيضا تأثرت بمعضلة التمييز فتم استخدام نفس هذا السلاح لهدمها، ولولا طفرة الجينوم الوراثي والتأكيد على حدوث الاصطفاء وبقاء الشفرة الوراثية ملايين السنين لتعززت حجة جنكلين وهدم الاصطفاء الطبيعي من جذوره..

وحديثا صارت معارضات كثيرة أيضا للتطور مبنية على نفس المعضلة وهي "التمييز" كقولهم أن ظهور اللافقاريات بدون سلف يعني إيجاد من العدم، أوالانتقال من عصر وحدة الخلية ما قبل الكامبري لتعدد الخلايا بعد الانفجار الكامبري لم يحدث بالانتقاء الطبيعي المقترح من داروين، فصورة الكائن وحيد الخلية مختلفة عن ذلك الكائن الذي يحمل 100 تريليون خلية كالإنسان، ما بالك وصورة وحيد الخلية لا شكل لهم رسوبي في النفس والعقل؟..لأن عظام أنواع ما قبل الكامبري ووحدة الخلية لا زالت مجهولة والأحافير عنها قليلة جدا أو شبه معدومة لفقدان العظام اللازمة للخلود عبر الزمن، مما استدعى المجتمع العلمي للبحث عن الأحافير بطريقة أخرى لا عظام فيها وهنا دخل الميكروسكوب علم الحفريات للبحث عن أنواع ما قبل الكامبري.

علميا انتهت كل هذه الشكوك بعد نهاية عصر ما سمي "بكسوف الداروينية" في عشرينات وثلاثينات القرن 20 أي العصر الذي تعرضت فيه النظرية التطورية لاختبار علمي وقاسي بشكوك قوية كادت تجعلها خرافة لولا ظهور علم الجينوم الوراثي – كما قلنا - الذي جاء بقشة الإنقاذ لداروين ونظريته بالكامل، فتحوّل المجتمع العلمي لتفسير الشكوك السابقة كملاحظات حسية خادعة سميتها هنا ب "معضلة التمييز" وهي المعضلة التي كانت وستظل الدافع الأكبر والأهم والمحفز النفسي لرفض التطور وقبوله حتى بين العلماء ، مما يعني أنه ما دامت تلك المعضلة دون فهم وتقريب وإنكار ذات وشكوك في الجانب المقابل سيظل الإنسان منكرا للعلم لحساب ثوابته الدينية وموروثه الاجتماعي.

وما يدعم معضلة التمييز أيضا خلط خصوم النظرية بين ارتقاء الأنواع بسرعة ووببطء ،فيظنون أن هناك زمن ثابت مطلوب للارتقاء حسب مؤيدي النظرية، وهذا غير صحيح فهناك أنواع لم تتطور وترتقي منذ عشرات ومئات الملايين من السنين كالصراصير، وبرأيي أن هؤلاء أغلبهم ليسوا من المجتمع العلمي لإدراك العلماء جيدا معنى الارتقاء الذي يتطلب تحديات بيئية وغذائية معينة ومدى استجابة النوع لها، فبقاء الصراصير مثلا طيلة هذه المدة يعني أنها مكتسبة أفضل وسائل وأساليب للبقاء خلافا لأنواع أخرى وجدت وانقرضت خلال مئات وآلاف السنين فقط، مما يعني أن تمييز الإنسان ليس حكرا على شكل النوع بل له علاقة بتصور الزمن اللازم للتطور..

ولأن الذهن البشري لا يتصور ماضيا للنوع مختلف فلن يتصور مستقبلا له أيضا، بمعنى أن من يعجز عن فهم كيفية تطور وارتقاء أسلاف البشر فلن يفهم مستقبله ومستقبل أحفاده من بعده، ولعل هذه الجزئية لها علاقة بالعاطفة الإنسانية..فالجد مثلا يحن لحفيده لكنه لو مات قبل أن يراه أو رآه طفلا رضيعا ثم اجتمعوا في زمن آخر لن يعرفه، ولا أتصور أن الجد وقتها يمكنه رؤية صفاته وسلوكياته الموروثه عند الحفيد ليشتبه أن ذلك الكائن من لحمه ودمه، هنا أيضا تدخل "معضلة التمييز" بثقلها لتثبت جهل الإنسان بجوهر المخلوق واعتماده على الشكل والتجريد الحسي اللازم للتمييز، هنا سيحصل على وضعه الاجتماعي اللائق على الأقل..وكأن معضلة التمييز اجتماعية لها تأثير متداخل في اتجاهات وتصورات البشر في كل العلوم والمعارف دون استثناء.

هنا نصل لكيفية تصديق العامة لرجال الدين في رؤيتهم للتطور، إنهم ينطلقون جميعا من رؤية حسية يحكمها التمييز دون دراية بالعلم مما يعني أنه مهما أنفق العلماء والباحثون من وقتٍ وجهد لإقناع العامة ورجال الدين لن يقتنعوا..خصوصا ممن تضرروا أو هددهم العلم في وظائفهم ومصالحهم سيكونوا حينها أشرس ما يكون، وسيتم إسقاط تلك الشراسة في أحفادهم لتصبح موقفا لهم من المعارف، مما يتطلب من الدولة جهدا كبيرا في تدريس النظرية والعمل على نشرها في التعليم والإعلام كما ينبغي وبمفردات وألفاظ منتقاه اجتماعيا على الأقل لعلاج هذه الصورة الذهنية التي تشكلت وتتشكل كل يوم جراء الغباء أو حُماتِهِ ورُعاتِه.

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقدمة في دواعش الفن المصري (5)

 منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أ...

موقع الباحث سامح عسكر الرسمي