مقدمة في دواعش الفن المصري (5)

0

 منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أنثى في أعماله، وبعد الهجوم والاستنكار غيّر أقواله لمعنى آخر أكثر قبولا وشهد بأنه يقصد المشاهد الساخنة تحديدا لا مجرد التلامس..


وقد عمدت إلى تضمين مناقشة هذا التصريح في سلسلة دواعش الفن لما يتضمنه من إشارات وأبعاد لها علاقة بما أسميه ب "الفن المحافظ" أو التشدد والمبالغة في الالتزام الأخلاقي والتعارض بينه وبين مهنية الفنان أحيانا، أو علاقة ذلك بحرية الشخص واحترام معتقداته وميوله أيا كانت، ولرأيي الحاسم بأن هذه المشكلة قد تخدم المتشددين ودواعش الفن بشكل مباشر أو غير مباشر، لاسيما أن التشدد الأخلاقي في الفنون كاتجاه إنساني قد يعيق حركة الفكر عن الإبداع والنقد ودور العقل الفني في تمثيل القضايا للجمهور بشكل صحيح، مما يصب لاحقا في صالح التيار المتشدد المعادي للفنون بحجة انحلالها أو سفورها الديني.


القضية معقدة أوسع من تصريح لفنان، وقبل مناقشتها أستعرض هذين الرأيين:


الأول: مؤيد للفنان وهؤلاء إما رجال دين أو ممثلين وكتاب شباب نشطوا في مرحلة السينما النظيفة منذ بداية الألفية الثالثة كآيتن عامر وناهد السباعي ومحمد أنور وغيرهم، أي لو كانوا ممثلين قدامى عاصروا سينما الانفتاح منذ نشأتها في الثلاثينات لمدة 70 عاما لكان لهم رأيا آخر، وموقف رجل الدين معروف فهو متحفظ بالطبيعة ولا يمتهن الفنون فرأيه إذن تحصيل حاصل ومعبر عن مؤسسة فقهية إسلامية ترفض التمثيل والموسيقى ولا تذيعها في برامج إذاعة القرآن كمثال..


وقد وقفت على رأي خاص للفنانة صوفية ضمن هذا الفريق له وجاهته الفكرية بأنه يعالج آفات ورواسب ظهور الممثلات "منى فاروق وشيماء الحاج" الإباحي سابقا، فقد ارتبطت في ذاكرة الجمهور مشاهد هاتين الممثلتين بحقيقة الفن الداعرة التي كان يحكيها الشيخ كشك ووجدي غنيم وشيوخ الصحوة الإخوانية، وبالتالي تصريح يوسف الشريف هو تنزيه في حقيقته للفن من تلك الصور المنحرفة وإعادة الفن لمساره الطبيعي وللتمثيل حجمه المناسب بالدور الثقافي التوعوي الذي لا يتطلب انحرافا أخلاقيا جنسيا كما يتصور أعداء هذا المجال، وقد فردت مساحة خاصة لرأي صوفية لتضمنه رؤية ثقافية شاملة وليس مجرد رأي مختصر ووجودي كالأسماء السابقة الذين سيُحسب رأيهم على أنه ميول شخصية أو مصالح مادية مع الممثل.


حجة هذا الفريق في الحرية الشخصية المقدسة للممثل، وهذا لا غبار عليه، فمن حق يوسف الشريف أن يختار العمل الفني المناسب له ولظروفه الشخصية والأسرية..أما إسقاط تلك الحجة فكريا ومناقشة أبعادها فقصة مختلفة، أذكر أن العديد من الفنانين رفضوا هذه المشاهد أو التلامس بتعبير الفنان كإسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي وغيرهم، فإذا قيل أن هؤلاء ليسوا بالوسامة التي تقنع المشاهد بقبولهم الرومانسي أو صعوبة إقناع فنانة بتقبيله فما بالكم بفؤاد المهندس الذي لم يرفض تلك القبلات وأداها في العديد من أعماله هو ومعظم نجوم الكوميديا كالريحاني ومحمد عوض وغيرهم ممن يمكن وصفهم بعدم تمتعهم بصفات الجان السينمائي شكلا أو الوسيم المرغوب فيه أنثويا..


وبرأيي أن حجة ذلك الفريق قوية ليس فقط لمساسها بمسألة الحريات الشخصية المقدسة، ولكن لأنها طبيعة إنسانية وجدت في أعظم سينمات العالم في هوليود، وقد وقفت على مواقف لنجمات كديانا لين وهال بيري وكاترينا جونز باتجاه سينمائي محافظ بعد أعمال خالدة عرفوا فيها بمشاهد البورنو، كفيلم الخائنة لديانا لين وريتشارد جير سنة 2002 وكرة الوحش لهال بيري في نفس العام والذي حصلت فيه بيري على جائزة أوسكار وجولدن جلوب، وكلا العملين جرى تخليدهم بأجرأ مشاهد جنسية في هوليود ومنذ هذا التاريخ رفضت كلا النجمتين أي مشاهد ساخنة على نفس الدرجة ليختلف حضورهم السينمائي إلى محافظة شبه تامة..


وهذا عندي حجة بظنون نفسية عند النجمات بعدم قبولهم مشاهد البورنو أو أن يعرفهم الجمهور في هذه الصورة التي وبرغم انفتاح أمريكا السينمائي إلا أن صناعة السينما فيها تعد أكثر محافظة من سينمات أوروبا الغربية والوسطى التي تكثر فيها تلك المشاهد بواقعية مفرطة، وأتذكر تصريح النجمة الأسبانية "فيكتوريا أبريل" حين حضورها لحفل افتتاح فيلمها في مهرجان سينمائي مصري أنها صدمت بمغادرة المصريين قاعة السينما بمجرد مشهد ساخن في الفيلم، وقالت أن هذا شئ عادي في أسبانيا وتعذر المصريين لتحفظهم وتحترم ثقافتهم..وقد ثار فضولي لمعرفة السبب فوجدت الصحف تنقل الخبر بظهور أعضاء الممثلين في المشهد مما يعني واقعيته المفرطة كمشاهد البورنو، فلو كان ذلك مقبولا في سينمات أسبانيا فهل سألنا عن حقيقة قبوله في سينمات صربيا مثلا أو أوروبا الشرقية؟..وبرغم علمي بالجواب لكني أتركه للقارئ.


مما يعني أن حجة أو دعوى يوسف الشريف قد تتجاوز هنا حاجز الحرية الشخصية إلى فرض نمط سينمائي خاص به لا يرتبط في ذاكرة الجمهور بأي انحلال، ولا يعني أنه يتضمن طعنا في الممثلات وعرضهن أو كرامتهن بالضرورة، خصوصا وأن ظاهر التصريح من الممثل قد يشي بأنه يتعامل مع عاهرات يعرضن عليه اتصالا جنسيا أمام الشاشات وهو يرفض..وقد علقت في ذاكرتي حجج أحد المعترضين أن ذلك هو اتهام بالعهر للوسط الفني فقلت ولما نفسره بهذا الشكل ولا توجد امرأة في العالم تدعو لهذا الاتصال العلني سوى ممثلات البورنو الذين يعيشون في عالم خاص بهم منفصل عن السينما الطبيعية، أو عدم إدراك لخصوصية الجنس في الثقافة البشرية وعدم الاستمتاع به في العلن.


أما الفريق الثاني المعارض: وحجته أن تصريح الشريف هو تدمير الحاجز بين الواقع والتمثيل، فكل ممثل يشتهي زميلته في الواقع سيشتهيها في الفن، ومن ثم فتصريحه هو تصديق لدعوى الشيوخ بحُرمة التمثيل والفنون وأنه خلط بين معتقدات الممثل الدينية والأخلاقية وبين العمل الفني وتشجيع على المحافظة والتشدد في السينما المصرية أكثر مما هي عليه الآن، ومن هؤلاء خرج الناقد طارق الشناوي والمخرج مجدي أحمد علي وغيرهم يرفضون التصريح ويحذرون من تبعاته، ولو أن هذا الرأي له وجاهته العلمية لكنه يقفز على مواقف فنانين رفضوا تلك الأدوار في السابق أذكر الفنانة "سهير المرشدي" في فيلم "رغبة متوحشة " سنة 1991 التي قالت فيه بالحرف أنها رفضت الاندماج أو تقبيل البطل بشكل صحيح أمام الكاميرا، وأصرت على عدم تكرار المشهد وتأديته كما طالبها المخرج "خيري بشارة"


على النقيض من ذلك أنه وفي فيلم " عفوا أيها القانون" نجد الفنانة هياتم تقبل بدور المشهد الساخن مع محمود عبدالعزيز، وبعد اتفاق مع مخرجة العمل إيناس الدغيدي بعدم حضور زوج هياتم في التصوير كي لا تجرح مشاعره في رؤية زوجته بين أحضان فنان بمشهد جنسي واقعي صنف أنه من بين أكثر المشاهد الجنسية إثارة وجرأة في السينما المصرية، وموقف هياتم وإيناس من الزوج يدل على أن الحاجز بين الواقع والتمثيل لا يمكن إيجاده كحقيقة أو وهم بهذه البساطة، فالإنسان يقدس جدا ممتلكاته، والزواج والحب هو عقد ملكية صوري لكلا الطرفين يشهد كل طرف بأنه ملك للآخر ولن يشاركه أحد، لا كما يقول الشيوخ أن عقد الملكية الصوري هذا يكون فقط للزوج بأحاديث لعن الملائكة وخلافه..لكن العقد هو للطرفين بإقرار المساواه التامة..


موقف سهير وهياتم يدل على أن التمثيل حرية شخصية وقبول أو رفض الفنان لبعض المشاهد يندرج تحت باب هذه الحرية، فمثلما ترفض فنانة القيام بهذا الدور تقبله أخرى، ومثلما يرفض يوسف الشريف هذه الأدوار سيقبله آخرون مثله..ومن هنا لا تعارض بين طبيعة الفن التي تفصل بين الواقع والتمثيل وبين حرية الممثل في اختيار أدواره..وقد تعمدت السكوت في هذه القضية وعدم التعليق لحين انجلاء الصراع ووضوحه بشكل تام للقارئ..فطبيعة السوشال ميديا أو صحافة الإنترنت أن الجمهور يميل غالبا لرأي الأغلبية أو السائد في صفحته ومجتمعه الافتراضي أو الواقعي، وبالتالي مناقشة هذا الأمر بعقل وحكمة سيكون أمرا صعبا لتعزر الأجواء المناسبة..


أما علاقة هذه القضية بالدعشنة فأشير إلى أن الفريق المؤيد يجب أن يفصل بينه وبين رؤى رجال الدين المؤيدة له والمُحرّمة للفن، على الأقل كي لا يُحسَب موقفهم على أعداء التمثيل والإرهابيين من الجماعات..مثلما أخذت تصريحات يوسف الشريف تقييما إيجابيا كبيرا بين جمهور الجماعات والإسلاميين وشعوب الخليج المحافظة، وقد يؤدي ذلك لردة فعل يُحسَب خلالها الشريف على هذا التيار برغم عدم تيقني بأنه يتبعه بشكل مؤكد، ومبعث تشكيكي أن الفنان له تصريحات سابقة يدعو فيها للصلاه وترك أفلامه حين انقضائها، وقد يعني هذا التصريح منه عدم احترام أو إدراك للفنون بأنها لا تتعارض مع الأديان والشعائر، فمثلما تمثل في أي وقت..يمكنك أيضا الصلاه في أي وقت، فلو تشدد يوسف الشريف في الصلاه لوقتها نكون قد وقفنا أمام شخصية سلفية تقدم معتقدها الشخصي على الفن فعلا..وما تصريحه بعدم التلامس أو رفض المشاهد الساخنة إلا ترجمة لهذا المعتقد المتشدد الذي قد يؤدي لاحقا لتطور أكثر عنفا ووضوحا بازدراء ممثلين وأعمال وزملاء له..ويكون الشريف قد تورط مثلما حذر خصومه في مستنقع التشدد الديني.


الحسنة الوحيدة هنا أن جمهور الإسلاميين المؤيد ليوسف على السوشال ورجال الدين قد احتجوا (بالحرية) لأول مرة لدعم فنان يخدم وجهة نظرهم، وهي مفارقة تتطلب منهم الاعتراف بقداسة الفن وطهارة التمثيل كرسالة من باب الحرية أيضا، وضرورته كأداة إصلاحية لتقويم الشعوب وتثقيفها، وبرأيي أن هذا الجمهور لن يعترف ولن يدرك أنه مُسيّر كرد فعل لمواقف غيره دائما، فهو إما يعترض على تصريح متحرر أو يؤيد تصريح محافظ وبأسلوب مشخصن بعيدا عن التحليل العقلي المستقل ، وأحذر أنه وكلا الأمرين مع فتاوى رجال الدين يحشدون العامة ضد الفنون أكثر وأكثر، وعليه فتكرار أزمة الشريف ودخول رجل الدين كالعادة وجمهوره المتدين سيخدم النزعة المحافظة بالفعل وتتحول مصر للأسوأ فنيا حتى تصل البلاد لحالة استنكار تام لكل ما هو فني..


مهم أن يؤيد من يؤيد على ثقافة ويعارض من يعارض عن ثقافة أيضا، ولا ألتفت للاتهامات هنا وهناك كدعوى المؤيدين للمعارضين بالانحلال ودعوى المعارضين للمؤيدين بالدعشنة..هذه مبالغة وقعت في إشكالية "الأبيض والأسود" وعدم تناول المشكلة بوجهة نظر علمية واقعية وإدراك حقيقي للطبيعة البشرية أو لمعنى الفن أحيانا، وقد عرضت وجهة نظري بعيدا عن شخص يوسف الذي لا يهمني بحال أو تاريخه الذي أحرص على عدم تناوله أو التأثر به في سياق هذه القضية خشية التأثر به والتحليل بناء على قناعات مسبقة..


فالفنون جميعها – ليس فقط التمثيل – بين محافظة وانفتاح، فمثلما يوجد في الشعر والأدب اتجاه محافظ يوجد أيضا متحرر قد يصل للبُعد الأيروسي، ومثلما يوجد في الرسم والنحت أيضا محافظة يوجد تحرر قد يصل لرسوم إباحية وصلنا منها الكثر من حقبة القرن 19 في أوروبا، إذ انشغل بعض الرسامين وقتها بتصوير الجنس في أعمالهم..ليس مجرد الجنس الطبيعي لكنه المتحرر أيضا، ونفس الشئ في الثقافة تجد فيلسوف متحفظ والآخر منفتح..وفي السياسة يوجد حزب محافظ والآخر منفتح، والإشكالية التي قد لا ندرك بها تلك الثنائيات أن نستسلم تماما لوجهة نظر أحد الفريقين ولا ننظر في الدعاوى الأخرى التي تتكأ على حجج وأدلة ربما تكون أكثر منطقية وعلم.

مقدمة في دواعش الفن المصري (4)

0

 في قصة نشأة جماعة الإخوان توجد أحداث في غاية الأهمية غفلها المؤرخون، وهو أن جذور الجماعة المصرية التي أنشأها حسن البنا لم تكن مصرية بل عربية في صحراء نجد حصرت وظيفتها بالجهاد والغزو ومنها اشتق البنا إسم جماعته (الإخوان) وهي جماعة "إخوان من أطاع الله" حليفة الملك "عبدالعزيز آل سعود" في حرب القبائل وتوحيد شبه الجزيرة العربية لتكوين الدولة الثالثة..


فحتى من يذكر هذا الجذر لم يهتم بالجوهر الذي نشأت عليه الجماعة التي حكاها مستشار الملك السعودي "حافظ وهبة" ت 1967 والذي عاصر كل حروب الملك "عبدالعزيز آل سعود" وشهد نشأة جماعة "إخوان من أطاع الله" الذي حكى بالتفصيل ضمن كتابه "جزيرة العرب في القرن العشرين" كيف نشأ التنظيم قبليا في منطقة "الأرطاوية" بين القصيم والكويت، في زمن لم تكن فيه الوهابية قد بعثت بعد القضاء على زعمائها في القرن 19 لكن في الأرطاوية شهد المستشار حافظ كيف أحيا النجديون معتقد الوهابية واستدعوا فيه كل رموز الغزو والجهاد بعد موتهم في ذاكرة التاريخ..

ولم يُفوّت الملك عبدالعزيز الفرصة فتحالف مع هؤلاء المقاتلين العقائديين ليساعدوه في حكم العرب وقد حدث ذلك في مقتبل حياة البنا وقبل تأسيس الجماعة الذي تيمن بهم وبجهادهم لإحياء خلافة بني عثمان البائدة في العشرينات، وهنا يظهر أن حقبة عشرينات القرن 20 كانت مفصلية ففيها كان إخوان نجد في مجدهم العسكري ونهاية الخلافة العثمانية ثم إنشاء التنظيم الإخواني مستفيدا من الحقبة الليبرالية في عصر الاحتلال بعدم وضع قيود على إنشاء الجمعيات الدينية أو حتى عملها بالسياسة تحت مظلة الملك..

وهذا يعني أن استدعاء وتعظيم رموز الغزو والجهاد كانت له أسبابه الدينية والسياسية، فأحيا المسلمون سيرة عمرو بن العاص وعقبة بن نافع وخالد بن الوليد، والأخير الذي يعقد له فنانو مصر هذه الأيام عملا لتعظيم سيرته وإحياء غزواته ليس بوصفها عملاً تاريخيا تجاوزناه..ولكن بوصفها جهادا إسلاميا لنشر الدعوة بالسيف كما كانت سيرة هذا الصحابي طوال عمره مقاتلا ..

المسلسل من تأليف السيناريست "إسلام حافظ" وقد تابعت صفحته على الفيس بوك وجدت له ميلا للمتشددين دينيا والهجوم على الحركة العلمانية بوصفها تغريب وانحراف أخلاقي، وبالحدس فاكتشاف هذه الميول والمصطلحات في نفس يعني اصطفاف هذا الفرد أيدلوجيا لصالح التنظيمات بحمل أفكار جهادية تراثية وإن لم يعلن عنها صراحة..لكن يعلنها على شكل أعمال فنية، لاسيما أن المسلسل تعرض لهجة إعلامية شديدة من التيار التنويري تستقبح ظهور هذا العمل الجهادي في عز الحرب على داعش ، وهي التي تدعي أنها وريثة خالد بن الوليد ورفاقه في نشر الإسلام بالسيف..

مما يعني أن ظهور العمل في هذا التوقيت يخدم داعش والإخوان بطريقة مباشرة ويُقرّب حلم الإخوان بالثورة الدينية التي اعترف بها المرشد الرابع "محمد حامد أبو النصر" في مذكراته المعروفة بكتاب "حقيقة الخلاف بين الإخوان وعبدالناصر" ذكر فيها صـ 26 لأحد الباشوات الكبار: "ليس في إمكان أحد من رجالات مصر الآن أن يطبق الشريعة الإسلامية ، ولم يكن هذا متوفر إلا في سعد زغلول حيث إنه الزعيم الوحيد الذي أجمعت الأمة علي حبه والولاء له.. أما في المستقبل فسينعقد إجماع الأمة علي فضيلة الأستاذ حسن البنا"..انتهى

الطريف في هذا الكتاب أنه عندما سأل الإنجليز أبو النصر عن حسن البنا قال:"هذا زعيمنا يأمر فيُطاع دون تردد"..أي لم يكن البنا مجرد فقيه أو زعيم حزب سياسي بل كان (نبيا) بل أعلى من الأنبياء باعتبار أن النبي كان يسمع أحيانا للصحابة وينفذ رغباتهم حتى لو لم يوافق عليها..وسبق القول باستفادة الإخوان من الحقبة الليبرالية في الثلاثينات والأربعينات، حتى انتشروا لدرجة تكوين جماعة عناصرها في ذلك الزمن 500 ألف عنصر كما هو مدون في بعض كتبهم، علما بأن عدد سكان مصر وقتها 20 مليون، أي أن الإخوان بأسرهم والمتعاطفين معهم وقتها كانوا يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع المصري، فلو ضربنا الرقم 500 ألف في 4 مثلا عدد الأسرة صار لديك 2 مليون غير المتعاطفين والخلايا النائمة..يعني أبو النصر لم يكن يتحدث من ضعف بل عن قوة ولباشا مسئول يحاسبه على أقواله..

فبالعقل عندما يجتهد فنانو مصر والدولة بالكامل في صناعة عمل جهادي تراثي بهذا الشكل تثار الأسئلة مباشرة، من المستفيد ؟..فلو قلنا الدولة المصرية فخالدا هنا لا يمثل جيشا وطنيا بل جيشا عقائديا عابرا للحدود يقاتل لهداية الناس كما هو مدون في مبدأ "جهاد الطلب " الذي يسيطر على الجماعات، ولو كان الإخوان فلما الإصرار على العمل إذن وقد اعتذر عنه مبدعين من قبل لأسباب خاصة غير معلنة كالفنان خالد النبوي والفنان عمرو يوسف، وبرأيي أن اعتذارهم لا يخلو من الشك والتوجس والرهبة من صناعة عمل مشكوك فيه تاريخيا..أو بالأحرى يخدم خصوم الدولة والجيش المصري بالخصوص، علما بأن الجهة القائمة على إنتاج العمل هي شركة "سنيرجي" المقربة من الدولة مما يعني أن الخلاف حول الأجر والمقابل غير مطروح، فالشركة لديها خزائن أموال مفتوحة ظهرت في إنتاج مسلسل الاختيار.

المؤلف إسلام حافظ يتذرع بأن مسلسله هو للأديب المصري "عباس محمود العقاد" في محاولة للتبرؤ من أي تبعات ووضع حواجز وسواتر ثقافية تحميه من بطش النخبة، وما غاب على السيد إسلام أن العقاد كان متأثرا كغيره من فقهاء الأزهر في عصره بالعقائد الجهادية إبان الحقبة الناصرية التي رفعت شارة الجهاد ضد الصهيونية واليهود، أي أن توقيت نشر العبقريات للأديب كان مرافقا لأيدلوجيا حربية كان من الطبيعي أن تُقدّس رموز الغزو والحرب وقتها كصلاح الدين الأيوبي وغيره، علما بأن كتاب العقاد رافقته أعمال سينمائية لتعظيم خالد كفيلم "خالد بن الوليد" للفنان حسين صدقي، فلم يكن الكتاب شذوذا عن قاعدة أو إحياء مفرد..بل ثقافة عامة نتجت عن شيوع الفكر القومي (العربي والإسلامي) وما يقتضيه هذا الفكر من رواج لأفكار الغزو والحرب لتوحيد الشعوب وتحريرهم..

فما يصلح إذن للآباء ليس بالضرورة أن يصلح للأبناء، علما بأن العقاد له مواقف متشددة أقرب للعنصرية ضد المرأة في بعض كتاباته فلم يكن هو الكاتب القدوة الذي بلغ الكمال ليُرفع إسمه كدرع يحمي "إسلام حافظ" من النقد..

وللتأكيد على طبيعة فكر هذه الحقبة فشيخ الأزهر نفسه عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في السبعينات له كتابين، الأول "السنة ومكانتها في التشريع" والآخر بعنوان " الجهاد في الإسلام" قال بكل ما سطره الإخوان والوهابية كتبهم من تشريع لجهاد الطلب والغزو وسائر ما طبقته داعش، يعني نحن ضمنيا أمام فكر واحد وأسلوب واحد جمع الفقهاء التابعين للدولة وبين فقهاء الجماعات..والناظر لتلك الحقبة يرى أن فقهاء الدولة كانوا يجيزون الجهاد ويحضون عليه من مبدأ قومي عروبي ، بينما فقهاء الجماعات كانوا ينشرون الجهاد من مبدأ قومي إسلامي، فحياة العقاد إذن ضمن هذا الإطار لن تخرج من تلك القومية وارتداداتها النفسية على العرب لاحقا بتعظيم الفتوحات والغزوات والحُلم بتكرارها حتى ظهرت القاعدة وداعش لترجمة هذه الأمنيات حرفيا..

فالمسلسل إذن فوق أنه داعم للجهاد والغزو الداعشي لن يعرض شخصية خالد الحقيقية التي حكاها المؤرخون ومنها أنه كان يسب الصحابة ، كشتمه للصحابي "أبي عبيدة بن الجراح" بقوله (يامغفل) وقد ذكر الواقدي ذلك في فتوح الشام حين استنكر عليه أبي عبيده قتل خالد آلاف المسيحيين الأبرياء الذين استسلموا وألقوا السلاح..

والقصة باختصار: "أن الصحابي أبو عبيدة بن الجراح كان مكلفا بغزو دمشق مع خالد، لكنه دخلها سلما وصلحا من جانب، أما خالد بن الوليد دخلها من جانب آخر يقتل ويأسر ويدمر حسب الروايات، فنصحه أبي عبيده أن ما فعله ضد الشرع، فقال خالد "قد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال" (فتوح الشام 1/73) فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم إني ما دخلتها إلا بالصلح، فقال خالد: "إنك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية، فقال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه، فرد خالد بن الوليد معنفا: وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى أفنيهم عن آخرهم" انتهى

ومن سب خالد أيضا للصحابة ما ذكره مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدريّ " ‏كان بين ‏ ‏خالد بن الوليد ‏ ‏وبين ‏ ‏عبد الرحمن بن عوف ‏ ‏شيء فسبه ‏ ‏خالد ‏ ‏فقال رسول الله ‏‏ ‏لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل ‏ ‏أحد ‏ ‏ذهبا ما أدرك ‏ ‏مد ‏ ‏أحدهم ولا نصيفه" (صحيح مسلم 4611)

طبعا المسلسل ومؤلفه الداعشي "إسلام حافظ" لن يذكر ما سبق، فهو يعتمد كليا على كتابات العقاد في موسوعة العبقريات دون أي إضافة أو قطع، ويصدر العقاد كواجهة لحماية المسلسل من النقد، وبخصوص الواقدي صاحب كتاب فتوح الشام فهو من أوائل وأشهر المؤرخين المسلمين، بل يعتبر هو المؤسس الأول مع ابن إسحاق للتاريخ الإسلامي، يعني كل مؤرخي المسلمين استفادوا من الواقدي كابن سعد صاحب الطبقات، لكن ولأن الواقدي وابن أسحاق ذكروا أمور اختلف عليها فقهاء الحديث بعد عصر المتوكل حكموا عليهم (بالضعف) وهذا سر تضعيف المحدثين للواقدي وابن إسحاق برغم أسبقيتهم في التدوين وذكرهم أمور صادمة للمذاهب جميعها ويحرص فقهائهم على إخفائها عن العامة.

ومن خطايا خالد أيضا التي يخفيها المسلسل قتله ٤٠ ألف مسيحي في غزوه لدمشق، ففي عام 634 م كان الروم يحكمون دمشق ، وكل سكانها مسيحيون، وعندما هاجمها العرب اقتحموها بقيادة خالد بن الوليد من جهة الشرق . قاوم الروم دفاعاً عن مدينتهم ، لكن خالدا هاجم المدينة ذابحاً الأطفال والنساء والرجال ومدمّراً كل شيء ، ونقلت مراجع المسلمين قوله :"لن أرفع السيف عن رقابهم ، حتى أفنيهم عن آخرهم" . (فتوح الشام للواقدي صـ 41) وقد حاول روم المدينة التفاوض مع العرب طالبين إليهم وقف المذبحة وعودة العرب "إلى بلادهم" (أي شبه الجزيرة العربية) مقابل إعطائهم مالاً وطعاماً، إلا أن خالد بن الوليد رفض وقال : " ما أَخْرَجَنا إليكم الجهدُ والجوعُ، وإنما نحن قوم نشرب الدماء ، وبَلَغَنا أنه لا دم أطيب من دم الروم ، فجئنا لذلك" ( البداية والنهاية لابن كثير ج 7)

وهكذا استمرت المذبحة وخالد وجيشه يقتلون من روم دمشق حتى فاق عدد الشهداء الأبرياء ال 40 ألفاً من مسيحيي المدينة، وكانت المدينة من جهة الغرب قد استسلمت لأبي عبيدة بن الجراح ، فدخل أبوعبيدة صلحاً من جهة الغرب ، وخالد "قتلاً وذبحاً" من جهة الشرق ، والكنيسة الأرثوذكسية ، وضعت من ضمن قديسيها "شهداء دمشق ال 40 ألفاً الذين سقطوا يوم "فتح" العرب دمشق ، ومصدر هذه المعلومات كتب " القديسون المنسيون في التراث الإنطاكي " للأرشمندريت توما البيطار ، ص 289، و "موسوعة البطريركية الأنطاكية" للأب متري هاجي أثناسيو ، ج 5 ، ص 216 كما ذكرت صفحة السريان الآراميين على الفيس بوك.

ناهيك عن اعتراف ابن حجر العسقلاني عن خالد بحرقه للناس أحياء، فقال " "ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة وقد سمل النبي أعين العرنيين بالحديد المحمي وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها"...(فتح الباري 6/150) وقد عرضت داعش هذه الفتوى لابن حجر في إطار تبريرها لجريمة حرق الطيار الأردني حيا، ناهيك عن جريمة قتل الآلاف من قبيلة بني جزيمة التي استنكر فيها النبي فعل خالد بقوله " اللهم إني أبرأ إليك من فعله، وقتل 70 ألف مسيحي في معركة نهر الدم..وجرائم أشد فظاعة كقتل الصحابي "مالك بن نويرة" وقطع رأسه وإيقاد النار عليها لطهو الطعام ثم نكاح زوجته بعد قتله..وغيرها عشرات الجرائم المذكورة في كتب التاريخ ومتاحة لرواد البحث العلمي..

أخيرا: فالمسلسل يريد إحياء عقيدة الغزو والفتح بعد انقضائها بموت سلالة بني عثمان ، علما بأن العرب الغزاه كانوا يحصلون على الآتي من كافة متع وشهوات الدنيا المحرمة :1- ضريبة الجزية..وهي مبلغ من المال على كل رأس ذكر بالغ حر وهي خلاف الجزية قرآنيا التي كانت تفرض على العسكر المهزوم، 2- ضريبة العشور..وهي مبلغ من المال على إنتاج المحصول (عُشر القيمة) وعلى السلع التجارية وأرباح المتعاملين، 3- ضريبة الخراج..وهي مبلغ من المال على مساحة الأرض، 4- الفئ والغنائم..وهي ثروات وأملاك وأموال وسلع كانت تؤخذ جبرا من المهزوم سواء بحرب أو بدون، 5- الإماء والجواري والسبايا والعبيد..وهم ثروات بشرية تذهب للمنتصر يعملون لديه دون أجر، وفي الفقه استحل الشيوخ الجنس مع السبايا على أنهم ملك يمين..

وبالنظر لأي احتلال أجنبي للبلدان قديما وحديثا فقد كان يحصل على هذه الثروات بحكم القوة، ثم يأتي صناع المسلسل يحاولون إقناع الجماهير والنخب أن القائد العربي وجنوده ذهبوا لاحتلال دولة ما وغزوها لنشر الفضيلة دون النظر لهذه الأمور المادية؟..وهل تظن أن الحكام والخلفاء لم ينظروا للمكاسب المادية والمتع وراء تلك الغزوات؟..علما بأن كتب التراث صرحت بأهداف الغزو الحقيقية، وطبقتها داعش في المناطق التي دخلوها بالعراق وسوريا، ففور دخولهم الموصل فرضوا العشور والخراج فورا على الجميع، غير الغنائم والسبايا وفتحهم سوق الرقيق..ثم فرضوا الجزية على المسيحيين فرفض أغلبهم الدفع مما اضطرهم للهجرة

باختصار: ضريبة واحدة من هؤلاء تكفي لأن يعيش القائد وجنوده كملوك ومتع حسية لا حصر لها، أموال مجانية وثروات هي حلال طالما رفعت تحت ستار الدين، واعلم أن كل دولة كانت تُهزَم أمام الخليفة كانت خيراتها تذهب لقصره وللحاشية التي تخدمه من وزراء ورجال دين فتمر الدولة بفقر ومجاعات بحقب زمنية لاحقة، فلا عًجَب أن يصر الفقيه ورجل الدين على مشروعية الغزوات فهو منتفع رئيسي منها، ولو لم يحصل على حقه من يد الخليفة سيأخذه في صورة هجرة لذلك البلد ويعيش كسيد وأمير متمكن، ولربما لو قدر لإسلام حافظ أن يولد مسيحيا أو يهوديا أو شيعيا لطالت رقبته سيوف الدواعش وأسرته صارت بين مشردة مهاجرة أو فقيرة من أثر الجزية والغنائم أو نساء عائلته سبايا يتخطفهم جنود الملك..!!

لنا عودة

مقدمة في دواعش الفن المصري (3)

0

 الكاتب والسيناريست المصري "فداء الشندويلي" أحد الكتاب المنتمين لتيار الإسلام السياسي المصري ، ليس تنظيميا بمعنى انضمامه للإخوان لكنه يناصر كل قضاياهم الفكرية من تطبيق الشريعة والحدود والخلافة والغزوات..إلخ، وقد سبق الحديث عنه إشارة في معرض الحديث عن الممثل التكفيري "أحمد الرافعي" أحد عناصر مسلسل الاختيار والذي كتب على صفحته مؤيدا قتل د فرج فودة ومتشفيا في موته على يد الإرهابيين..


فداء الشندويلي لم يدون أعمال فنية تنصر أفكاره السياسية سوى بعض الأمور الفرعية كتعدد الزوجات الذي شرعه في عمله الأخير بمسلسل "حب عمري" المعروض في رمضان الفائت، ومن لا يعرف هذا العمل فهو يحكي تجربة رومانسية فيها تقنين لتعدد الزوجات دون الإشارة لخطرها على المجتمع المصري وعلى المرأة وتسببه في تفسخ الأسر ، لم يكن واقعيا بما يكفي لعرض هذا الجانب الاجتماعي رغم جودة إخراج المسلسل لعبدالعزيز حشاد وآداء الممثلين كسهر الصايغ وسامح الصريطي وغيرهم، علما بأن مسلسل آخر في نفس العام وهو "البرنس" لمحمد رمضان عرض قضية تعدد الزوجات لكن بمشاكلها الواقعية دون الترويج لها كما فعل فداء على طريقة الحج متولي.

في صفحة فداء الشندويلي على الفيس بوك بتاريخ 24، 30 ديسمبر 2018 يدعو لغزو الأندلس تطبيقا لنبوءات الفتح الإسلامي ونراه يقتبس من مؤرخ الإخوان الأول د راغب السرجاني، وفي هذه إشارة على دعم الرجل للجهاد والغزوات باسم المعتقد، وقد يصدر تبريرا على أن هذه صفحته الشخصية طالما لا يوظف أفكاره الجهادية تلك والجواب: أن الرجل شخصية عامة ومن النخبة النشطة في تشكيل وعي المصريين حاليا بالدراما، وحديثه عن الفتح والجهاد في أي منبر له ينبغي أن يكون له عواقب ومسئوليات، بالضبط كما دعا لمقاطعة البنوك الربوية في مقال بتاريخ 21 نوفمبر 2018 وفي هذا خطر شديد على الاقتصاد المصري لو تم تطبيق مع يدعو إليه باستبدال البنوك الربوية بالبنك الإسلامي

كما تشفى في ضحايا كورونا بالصين بتاريخ 25 يناير 2020 على أنه عقاب إلهي على تعذيب الإيجور، وقد أتفهم رأي فداء سياسيا على أنه خصم للصين لا مشكلة فالآراء النسبية بالسياسة واردة ما دامت صادرة عن أدلة وقرائن أو حتى موقف وجودي، لكن ما لا يمكن قبوله هو ربط السياسة بالدين وادعاء تعذيب الله للصينيين بكورونا، وقد شاركت مقاله هذا على صفحتي بالفيس بوك مستنكرا ما فعله هو وأخيه "شامخ الشندويلي" مصحوبا برسالة نقدية عقلية عن هذا العمل وكانت النتيجة أن شتمني شامخ على صفحته وكلاهما – فداء وشامخ – عملوا بلوك للعبد لله كي يفوتوا الفرصة عليّ بمراقبتهم، وقد جائني الخبر اليقين بإغلاق فداء صفحته عن العامة خشية تعقبه وتفهمت إجراءه على أنه قد يكون شعورا بالذنب أو هربا من المسئولية..

وأمثال فداء هم كم كتبوا مسلسل "سقوط الخلافة العثمانية" سنة 2010 بفريق عمل مصري سوري، على أن المسلسل هذه المرة لم يكن على شاكلة "ممالك النار" بل عرض الخلافة العثمانية على أنها كانت إسلامية صالحة وإحيائها فرض عين على كل مسلم بعرض مآثر وإنجازات السلطان "عبدالحميد الثاني" وبعيدا عن الجدل حول هذا السلطان وتاريخه الذي أكتفي بالنخبة الفلسطينية التي أبدعت في عرض كتبها وأدلتها على بيعه وآباءه أرض فلسطين للصهاينة منذ القرن 19 م بإنشاء أول مستعمرة صهيونية "مكفا إسرائيل" عام 1870 م، لاسيما أنه حتى عام 1876 لم يوجد سوى خمسة مستوطنات، وعدد اليهود لم يكمل 3 آلاف، لكن منذ سنة 1876 حتى سنة 1909 وصل عدد المستوطنات ل40 مستوطنة ، وعدد الصهاينة زاد عن ..(12 ألف مستوطن) علما بأن السلطان عبدالحميد حكم في الفترة التي انتشرت فيها المستعمرات منذ عام 1876 إلى سنة 1909 وهذا التاريخ الرسمي لانتهاء الخلافة العثمانية وانتقال السلطة لجمعية الاتحاد والترقي.

أما عن أوضاع الخلفاء العثمانيين وكيف أنهم كانوا مجرمين فأكتفي بأمرين اثنين:

الأول: شهادة إمام الحنابلة في عصره "مرعي الكرمي" ضمن كتابه "قلائد العقيان في فضائل آل عثمان" المتوفي عام 1624 م ، أي في عز قوة ومنعة الدولة العثمانية التركية ، واعتبر فيه أن قتل ملوك العثمانيين لأبنائهم (فضيلة لم يسبقهم إليها أحد) وإليكم النص بالكامل صـ 135 "ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفا من الفتن ، وفساد ملكهم واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم، وهو وإن كان أمرا ينفر منه الطابع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير"..انتهى

الشيخ مرعي يشهد أن فتاوى شيوخ العثمانيين كانت تجيز ذلك من باب درء الفتنة بل وصلت لجواز قتل الثلث من الشعب ليعيش الثلثين، لكنه اختار عدم جوازها في الأخير لصراع داخلي عنده بين مصلحته وضميره، فمصلحته كانت مع السلطان العثماني وربما كتب هذا الكتاب بأمرٍ منه، لكنه في ذات الوقت لم ينجح في تبرير جريمة السلطان بقتل أبنائه..إلا قوله بجواز ذلك (سياسة لا شريعة)

والأسئلة لممجدي الخلافة وأنصارها في الفن المصري:

1- هل الشيخ مرعي محقا فيما كتب وهو كان من ضمن فقهاء الحنابلة الكبار في الشام وعَلَم من أعلام فقهاء آل عثمان؟..فلو لم يكن محقا ما حقيقة ما قاله بأن شيوخ العثمانيين أفتوا بجواز قتل السلطان لأخوته وأبنائه؟..علما بأن الكتاب صُنّف خصيصا لعرض إنجازات العثمانيين في الحروب وسيطرتهم وقدرتهم على التوسع خلافا لمن سبقوهم، علما بأن مصادر وأدلة قتل العثمانيين لعائلاتهم بغرض حفظ الملك ليس ابتكارا لهم بل سياسة عرفت تاريخيا ب fratricide وتعني قتل الأبناء والآباء والأخوة لحفظ الملك، وهي سياسة عرفت تاريخيا بالقتل الرحيم طُبّقت في الدولة الرومانية والفارسية الساسانية والمغولية، وكانت سببا في بقاء ملك هذه الدول فترة طويلة، أي أن بقاء الدولة العثمانية 500 عام ليس فضيلة دينية بل نتيجة للقتل العائلي والغلبة للأقوى..

2- السلطان سليم الأول قتل أخيه "شاه زاد كوركود" قبل دخوله مصر والشام بثلاثة أعوام، وفي عز معركته مع الفرس في جالديران، وهذه حقيقة تاريخية عليها إجماع يشهد عليها مدفنه في مدينة بورصة التركية وطريقة إعدامه..فهل ما فعله سليم يتفق مع الشريعة؟..لا أبحث عن جواب تقليدي بنعم أو لا، ولكن عن بحث في جذور وهوية هذه الدولة ونزع سياقها وأحداثها من الدين إلى التاريخ، أي أن العثماني تاريخ لا دين، والذي أوجد هذا اللبس واعتبار العثماني دين هو أحاديث فتح القسطنطينية وقد سبق الرد عليها في دراستنا المنشورة بتاريخ 10 يونيو 2020 بعنوان " غزو القسطنطينية..الوهم المقدس"

الثاني: اقرأوا عن ثورة "بكر صوباشي" سنة 1621 م ، وفيها أن بكر باشا صوباشي كان أميرا عثمانيا على بغداد خرج الثوار العراقيين ضده فأجهز عليهم بالقتل والحرق، منهم من كان يحرقه حيا بالكبريت في قوارب بالماء، ولم يفرق في جرائمه بين عسكري ومدني، فقد انقلب بكر باشا لاحقا على العثمانيين وحاربهم ثم وصل لاتفاق بأن يحكم هو بغداد مستقلا عن الخليفة التركي، وأرسل يطلب الحماية من الشاه الإيراني "عباس صفوي" من العثمانيين، ولما استتب له الأمر أعلن كفر الشاه لمذهبه الرافضي، وانحيازه مرة أخرى بجانب الأتراك ضد الفرس...

هنا قرر الشاه الانتقام وزحف بجيوشه ليقضي على بكر صوباشي بمساعده (إبنه) لكن عرفت حركته تاريخيا بأنها أول مسمار في نعش الاحتلال التركي للعراق خرجت بعدها ثورات عدة للشعب هناك ضد الاحتلال مرة بمساعدة الإيرانيين ومرة بالاستقلال عنهم، لكن العراق في تلك الفترة شهدت كوارث من جرائم العثمانيين للفرس نهاية بالدعوة الوهابية في القرنين 18 و 19، وعليه فمفهوم الخلافة هنا لم يتحقق لمخالفة ما حدث من ثورات عراقية لطبيعة المفهوم التي تستوجب العدل والتواصل الإلهي بين الرب والخليفة باعتباره حارسا للدين والوصي على النبوة بعد موت الرسول، أي أن الأزمة في جوهرها تتعلق بتعريف مصطلح "خليفة" قبل إسقاطه على أي دولة وإمبراطورية في التاريخ، علما بأننا لم نتحدث عن جرائم العثمانيين في مصر وليبيا والبلقان ولا مجازرهم المليونية ضد الأرمن والسريان والآشوريين.

أما بالنسبة لموضوع (فتح) القسطنطينية فقد أشرت إلى دراسته عاليا، لكني أضيف في هذا السياق بعض الذكريات لي مع الزعيم التركي الإخواني "نجم الدين أربكان"

الأولى: في حرب الخليج، حدثني فيها بعض شيوخ الإخوان عندما كنت في التنظيم أنهم أرسلوا رسائل لأربكان يطالبوه بالتدخل لوقف ما سموه ب (الهجمة الصليبية الحاقدة) على الإسلام والمسلمين..وبالطبع أربكان لم يستجيب..بل كانت طائرات أمريكا تقلع من قواعد تركية لتضرب المدن العراقية..

الثانية: كان أربكان يعقد مؤتمرا سنويا في بعض استادات تركيا لإحياء ذكرى (فتح القسطنطينية) بحضور قيادات إخوان باكستان وماليزيا، علما بأن إخوان باكستان اسمهم الجماعة الإسلامية، وإخوان ماليزيا الحزب الإسلامي..

هنا توجد مفارقة بين الأمرين:

أربكان في الأولى هو زعيم علماني تابع لأمريكا ولا يمكن يسمع كلام الشيوخ، أما في الثانية هو زعيم إسلامي مناضل يحيي ذكرى الفاتحين الإسلاميين، في الأولى يفصل بين الدين والسياسة.. في الثانية يخلط بين الدين والسياسة، في الأولى المصلحة هي الأهم..في الثانية الدين هو الأهم، فلو تأملنا هذه المفارقة نراها هي التي تحكم تركيا الآن في عصر أردوجان، اضطراب شديد في الشخصية والهوية، بحيث تجد الصورة المعلنة للخارج مختلفة في الجزء الأكبر منها مع السياسات والشعارات ، بمعنى أن أردوجان في ظل دعمه لحكم الإخوان المسلمين هو ما زال يقدس كمال أتاتورك زعيم الملحدين كما يسموه إخوان العرب..!!

المهم: قصة غزو القسطنطينية وربطها بالأحاديث النبوية هي كانت ولا زالت محور شعبية الأتراك دينيا وحكومة أردوجان بشكل خاص، لذلك استغربت من بيان دار الإفتاء الذي قال بأن النبي بشر بفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح التركي، لكن أردوجان لا شأن له بالفاتح العظيم..!...ولولا جهل الأخوة في دار الإفتاء بالمفارقة أعلاها ما ورطوا أنفسهم بالبيان لأنهم باختصار شديد خدموا أردوجان والإخوان في تعزيز الصلة بين نبي الله محمد وملوك الترك العثمانيين، وهي نفس الصلة التي يلعب عليها أردوجان في التأثير على مشاعر العرب والمسلمين، علما بأن لقب محمد الفاتح هو لقب صوفي أطلقوه على الرسول لفتحه مكة، خصوصا في الطريقة التيجانية التي لديها أوراد ذكر يصلون فيها على محمد الفاتح ، وذكر ذلك الشيخ رضا في مجلة المنار على أنها صلاة بدعية..

تحدثت كثيرا في غزو القسطنطينية وقلت أنها كانت (حلما أمويا) لإسقاط الدولة البيزنطية بدأ منذ عهد الخليفة عثمان في معركة ذات الصواري واستمر حتى أبناء عبدالملك بن مروان، ولشدة تحصين المدينة وفشل الأمويين الذريع في اقتحامها جعلوها من علامات الساعة ووضعوا فيها الأحاديث التي تبشر بسقوطها وأن الذين يحصلون على شرف إسقاطها سيغفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر..!..وهذا كان سلاح الأمويين لحشد الجنود في الفتوحات والغزوات، عن طريق العصا والجزرة، فبالعصا يرفعون السلاح ضد كل من تسول له نفسه ويهرب من الجندية، والجزرة في وضع أحاديث تبشر بالخلاص والجنة لهؤلاء الجنود، وبما إن الإخوة في دار الإفتاء الموقرة لسه مصدقين أهل الحديث وأنهم بشر معصومين لا يجري الباطل من بين يديهم ولا خلفهم..وقعوا في ورطة دعم الإخوان فكريا من حيث لا يشعرون..

لنا عودة ..

مقدمة في دواعش الفن المصري (2)

0

 إن أسوء ما تم إنتاجه في عصر الصحوة الإخوانية من حيث التأثير السلبي والمعرفي على المجتمع هي الأعمال الفنية في تمجيد وتعظيم المحدثين وزعمائهم، ولو كانت هناك دراسة بصراع هؤلاء المحدثين مع أهل العقل والرأي لأفقد حماس هؤلاء الفنانين في تقديس هؤلاء الرواه وتصديرهم ليس فقط كعلماء ولكن كأنبياء لا يأتيهم الباطل، ويمكن وضع أعمال الفنانين حسن يوسف وأشرف عبدالغفور ومحمد رياض في تعظيم المحدثين والأصوليين تحت هذا الإطار فهم الذي أدوا شخصيات "النسائي – وابن ماجة – وابن تيمية- والترمذي – والبخاري وابن حزم – والغزالي..وغيرهم"


وفي الجزء الأول من هذا اللقاء استعرضنا أصل نشوء الأصولية والدعوة للشريعة وتحويل المجتمع دينيا للنمط الصحراوي الوهابي منذ السبعينات، وبالتالي ينطبق ذلك على أعمال الثمانينات لعزت العلايلي ويحيى شاهين في تعظيم مؤسسة الأزهر بمسلسل " الأزهر الشريف منارة الإسلام" سنة 1982 م وفقهاء ومؤرخين كالطبري ومالك والشافعي وقادة عسكريين عمرو بن العاص..وغيرهم، إضافة لأعمال المذكورين في تعظيم فقهاء الأزهر كالمراغي وعبدالحليم محمود والشعراوي الذين كانوا حكرا للفنان "حسن يوسف" في عرض سيرتهم الذاتية بمسلسلات كاملة ومنفصلة.

نلاحظ في هذه الحقبة غياب الشخصية المصرية وتاريخها عن الفنون الإذاعية والدرامية والسينمائية، فكل من تم ذكرهم إما غير مصريين في الغالب أو مصريين يحملون فكرا أصوليا نشأ بعد الهجرة الريفية إلى المدن التي سبق الإشارة إليها في الجزء الأول أنه انتقال من التدين المصري البسيط إلى التدين العنيف المتشدد، ومسلسل الشعراوي كان في هذا الإطار يجمع بين العرف التقليدي للريف والمحافظة الدينية للتراث حتى أن شخصية الشعراوي يمكن اعتبارها مجمع لكل القيم المحافظة والمتشددة في هذا العصر من ناحية تكفيرها للأقباط واحتقارها للمرأة وتشددها في الأزياء والصلاه والصوم وغيرها، مما يعني أن اتجاه الأسلمة كان طاغيا على الفن المصري آنذاك حتى أنه لم يخطر على بال المنتجين مثلا إبداع مسلسلات عن أعمدة الاستنارة المصرية كطه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة وروائيين كبار كيحيى حقي وعبدالقدوس ..وغيرهم

حتى مسلسل طه حسين الذي عقد أواخر السبعينات للفنان أحمد زكي قدمه كشخصية أزهرية وليس مفكرا شكوكيا يستعرض تاريخه في الفلسفة الديكارتية، بدليل القفز على حقبة العشرينات والثلاثينات في حياة العميد التي أنتج فيها معظم أعماله المستنيرة التي أصبحت لاحقا مصدرا للنقد الأدبي والعلمي للعرب، ويمكن اعتبار مسلسل طه حسين وقتها أنه تأثيرا سياسيا واجتماعيا كان يريد تقديم الأزهر كمؤسسة دينية مستنيرة تدعو للشريعة وتبشر بالرخاء المقبل مع شركات توظيف الأموال، نفس الشئ ينطبق على مسلسل رفاعة الطهطاوي في الثمانينات لشكري سرحان والذي قدم الشيخ رفاعة كشيخ أزهري مترجم وليس كمعلم مستنير ناقد للثقافة المحلية، ويلاحظ أن توقيت عرض المسلسلين كان مرافقا لنشاط هذه الشركات إضافة لقانون تطبيق الشريعة الأزهري الذي قدمه عبدالحليم محمود سنة 1978 ليوافق عليه البرلمان والرئيس ثم يؤدي لاحقا لفتنة طائفية دفعت البابا شنودة للاعتكاف..

وهذا القانون الأزهري كان يتضمن الدعوة إلى تطبيق ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي والمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وهي نفسها كانت مصطلحات الجماعات التي أنتجت لاحقا شركات توظيف الأموال ومطالبة المسيحيين بدفع الجزية، وضمن هذا القانون كان التبرج محظورا بنص مادته رقم 14، أي نسخة من الثورة الإيرانية وفرض الحجاب، كما طالب في مادته رقم 6 الخاصة بالمحتسب بتشكيل جماعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أي كانوا يريدون إحياء نفس النموذج السعودي في مصر ، كذلك المادة رقم 44 الخاصة بالإمام ووجوب طاعته والمادة 47 بمنع ترشح غير المسلمين لرئاسة الجمهورية، إضافة لفتوى دار الإفتاء المصرية عام 1978 بتطبيق حد الردة على مسلم تحول للمسيحية، وهي التي أشعلت غضب الكنيسة باعتبار هذا القانون يستبيح دماء المسيحيين بمجرد شهادة مسلمين على ردة أحدهم..

في هذا السياق يجري فهم مسلسلات تعظيم الأزهر في تلك الحقبة باعتبارها داعية إلى نفس المشروع الديني، خلافا للرؤية السطحية التي ترى الأزهر مثلا بعيون 2020 الذي يصدر فيها فتاوى ضد الجماعات لظروف سياسية ويضطر آسفا للتنازل عن فتوى وجوب الخلافة كفائيا عام 2011 ليفتي شيخ الأزهر بأنها نموذج حكم وليست فريضة بعد سقوط الإخوان في ثورة يونيو، أي أن الأزهر في سلوكه العام كان براجماتيا نفعيا أراد التقرب للسلطات خوفا من بطشها وإحياء آلام زعمائه في عصر الباشا محمد علي في القرن 19 م ومن ناحية أخرى بقاء المذهب السني وتفريعاته الأربعة لإرادة سياسية بعدم انتقال مصر للعلمانية أو التشيع كما يخاف الشيوخ وتدفعهم الهواجس يوميا للتحذير من خطر هؤلاء على مصر.

أما عن وضع أقباط مصر في هذه الحقبة كان محزنا ، فهم كانوا ضحية لمواجهة بين السلطة والجماعات لسبب واحد هو : أن السادات تبنى قاعدة (إسلام الدولة) مقابل (إسلام الجماعات) يعني بدلا من مشروع الشريعة للجماعات تقوم الحكومة بتطبيقها أولا لإرضاء التيار الإسلامي المطلوب دعمه في مواجهة الشيوعيين، وثانيا لنفي صفة الكفر عن السلطة في صراعها مع التنظيمات الجهادية أعقاب توقيع كامب ديفيد، وبالفعل أصدر قانون تطبيق الشريعة نهاية السبعينات ووافق عليه مجلس الشعب كما ذكرنا..ولولا انتفاضة الأقباط واعتزال البابا شنودة ما تم إلغاء القانون..

كانت من مظاهر قاعدة السادات برنامج الشعراوي الأسبوعي ممثلا لإسلام الدولة ، مقابل شرائط الشيخ كشك الممثلة لإسلام الجماعات شعبيا، وكلا الشيخين الشعراوي وكشك كانت لهم مواقف متشددة من الأقباط تحت سمع وبصر الدولة، فالشعراوي كان يُكفّر المسيحيين في خواطره الأسبوعية بشكل دوري وإسقاط بعض آيات الجهاد والجزية فيهم أحيانا، لدرجة أن سؤال: هل أنت مسلم أم مسيحي أصبح دارج شعبيا، برغم أنه حتى منتصف القرن 20 لم يكن وارد خصوصا في الإعلام ومؤسسات الدولة وهي الحقبة التي أشرنا إليها في الجزء الأول أنها ما قبل الهجرة الريفية إلى المدن وسفر المصريين إلى الخليج..

تطبيق الشريعة الساداتية كان يلزمه تعطيل المجلس المِلّي المسيحي وبالفعل تعطل المجلس جزئيا تمهيدا لفرض الشريعة الإسلامية على الأقباط، هنا أصبحت مطالب المسيحيين بالمساواه مع المسلمين متأخرة عن ضرورة حمايتهم من السادات وجماعاته التي أطلقها لمواجهة الشيوعيين، وبنظام عدو عدوي صديقي ظهر أن حكومة السادات تعاملت مع الأقباط كحلفاء للشيوعيين ضده وهو الذي ساهم في إشعال الأزمة الطائفية في مصر بعد سكونها مؤقتا في فترة عبدالناصر، علما بأن مطالب المسيحيين في مصر تتلخص في خمسة مطالب هي (حرية بناء الكنائس – الأحوال الشخصية – الدعوة والتبشير أسوة بالمسلمين – الوظائف العامة – اعتراف الدولة بهم في التعليم والإعلام) لكن هذه المطالب لا يمكن تحقيقها في ظل وجود المادة الثانية في الدستور..لذلك طالب الحقوقيين بإلغائها كحل وحيد لحل المشكلة القبطية، وبعد مجئ الإخوان واختراعهم للمادة 7 بتمكين الأزهر أصبح دستور مصر إسلامي متعارض مع مواد الحريات..وهذا يعني أن المطلب القديم بإلغاء المادة الثانية أضيف له إلغاء المادة 7 واعتبار مؤسسات الدين كيانات دعوية خدمية للمجتمع لا تضمن في الدستور.

مشاكل الأقباط كثيرة لكن هي الآن في مرحلة سكون عن مناقشتها دون علاجا حقيقيا يحمي المصري المسيحي من تغول الدولة ومن المتطرفين المسلمين، وقد تحدثت مع بعض الأصدقاء المسيحيين الذين قالوا: بأن الدولة استولت على أوقاف المسيحيين وضمت بعضها لأوقاف المسلمين في زمن السادات ومبارك، علاوة على مطالبتهم بتضمين حصة من الموازنة العامة للمعاهد والمدارس القبطية أسوة بالأزهر والأوقاف..وهي مطالب مشروعة كنت أود حلها في البرلمان الحالي ولو تتذكروا قلت أن فرصة إصلاح وضع الأقباط في مصر الآن لن تُعوّض بدخول العشرات منهم في البرلمان..لكن تبين أن الذين دخلوا كانوا ضعفاء وأقل من تحقيق حلم الأقباط بالعدالة.

نعود لمسلسلات المحدثين في الفن المصري فهي لم ترفع شأن هؤلاء الشخوص فحسب بل رفعت من قيمة النقل على العقل حتى صار استخدام العقل في مصر منذ 40 عاما وإلى الآن مستقبحا، وصار من الدارج أن يتهم العوام كل من يعمل عقله في النصوص أن يُتهم بالبدعية والرد الساذج الشهير بأنه لو كان الدين بالعقل لأصبح مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، وهو قول ساذج منسوب للإمام "عليّ بن أبي طالب" ظهر في فترة الصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث بعد موت الرسول ب 200 عام..إذ لم يعرف الصحابة أصلا هذا الصراع بين العقل والنقل لقربهم من زمن الرسول وسهولة الحصول على المعلومة والشرح وحرية التفكير في النص كما شاع في سلوك الصحابي "عمر بن الخطاب" الذي أوقف العمل بالعديد من الآيات اجتهادا..

والعلم كذلك ضد هذه المسلسلات، ففي علم النفس ما يسمى بالذاكرة الكاذبة False Memories وتعني أن الإنسان يتوهم أحداث حقيقة له بمقدمات وتفاصيل محكمة رغم أن هذه الأحداث في حقيقتها أو جزء منها (وهمي) لكن الذهن يعتقد بصوابها كأنها شريط فيديو، وبالتالي وجود هذه الذاكرة يدحض كليا ما يسمى علم الحديث الذي قام في أساسه على قوة الذاكرة للمُحدّث فرضا بصدقيته ونزاهته من التأليف، وعلى فرض أنه ينقل رأي الشاهد والسامع لعدة أجيال متصلة وهذا مستحيل..

ال False Memories هنا تطعن في هذه الذاكرة وتجعلها عرضة للوهم واعتقاد أحداث وخيالات لا صلة لها بالواقع، والتجربة شهدت تأليف أحداث وشخصيات وهمية كثيرة في التراث دفعت المحدثين لاختراع ما يسمى "علم الرجال" أو التسليم بأن خبر الآحاد كله ظني الثبوت لاعتقادهم بأن الشرط الوحيد لصدق تواتر الخبر هو نقله عن جمع غير معلوم العدد، ناهيك عن انهيار هذه الذاكرة بشكل عنيف عند كبار السن، والسادة المحدثين ظلوا يعملون في هذه المهنة حتى بلوغهم العَجَز ، وبالتالي فاحتمال انهيار ذاكرتهم وتوهمهم أحداثا زائفة كبير لم ينتبه له الأوائل لجهلهم أول شئ بالفلسفة وعلوم النفس..ثانيا لضعف التواصل الاجتماعي بشكل يضعف فيه من عمليات التحقق.

علاوة على التجربة الشهيرة المعروضة على وسائل الإنترنت بجمع صف طويل من الشباب الذين أخذوا تعليماتهم بنقل (الإشارة اليدوية) من أول الصف إلى منتهاه، ثم تأتي الإشارة من الخلف بينما عيونهم للإمام كي يجهلوها..بالضبط كطبيعة السند في الطبقات ، الأول يعرف الثاني، والثاني يعرف الثالث، بينما الثالث لا يعرف الأول، وعندما وصلت الإشارة لآخر الصف (تغيرت) الإشارة اليدوية تماما، وهذا يثبت أن صحة السند لا تكفي لصدق الرواية، فكل واحد ينقل حسب طبيعته وإمكانياته المختلفة عن الآخرين..هذا بافتراض (حُسن النية) وحدوث التواصل الجسدي بين الرواه.

تخيل أن هذه الإشارة تغيرت مع (صدق كل واحد فيهم) فماذا يحدث لو تعمد أحدهم الكذب؟؟!..والتجربة تقول بوضوح: لا تصدق كل ما يقال لك..تحرى بنفسك من الأخبار والمعلومات، شغل عقلك.. لأن صدق الناس لا يكفي لإثبات الحقائق، والعلم لا يكون بالنوايا، والنتيجة المباشرة لتعظيم المحدثين في الفن علاوة على فضائيات السلفيين كانت أولا: نشر الغباء بإنكار التجربة السالف ذكرها، وثانيا: نشر الجهل بترديد أكاذيب وأوهام القدماء على أنها حقائق، وثالثا: إحياء التراث بحذافيره والاعتقاد بضرورة تطبيق أي رواية صحيحة السند أو صح سندها عند بعض المحدثين كما تفعل داعش والقاعدة أحيانا بعرض أدلتها الفقهية عقب بعض العمليات..

لنا عودة..

مقدمة في دواعش الفن المصري (1)

0

 في فترة السبعينات بمصر حدث تحوّل جوهري في المجتمع بعد الهجرة الريفية إلى المدن، وقتها بدأت مصر تتحول من دولة ريفية إلى حضرية بالضبط كما حدث مع الصين في الخمسينات والاتحاد السوفيتي في الستينات ، ودون الدخول في مقارنة هذا التحول بين مصر والصين والسوفييت لكن التحوّل المصري رافقه تحوّلا فكريا آخر لم يتوقف على هجرة الفلاحين لمناطق البرجوازيين والطبقة المتوسطة ولكن هاجر الفلاحون المصريون أيضا للخليج الذي تصدر بصفته موردا ماليا أعلى من دخل الفلاح في أرضه أو عمله في شركات ومصالح الرأسماليين في الحَضَر..


إنه تغيرا شاملا بدأ يصيب مصر حيث نشأت بالتوازي قيم دينية خليجية مع قيم مادية رأسمالية علاوة على نقل عادات وتقاليد الريف للمدن في مرحلة لاحقة بدأت منذ الثمانينات حتى الألفية الجديدة، وهذا سر تغير المجتمع المصري من تقدميته الحضرية وإعلامه الراقي في الحقبتين الملكية والناصرية إلى رجعيته الفكرية وسيادة قيم الريف والخليج ومعتقداتهم المتشددة..

في هذه الفترة بدأت تنشأ طبقة تحمل كل معالم هذا التغيير في جانبين اثنين هما (المال والدين) فتم الربط بينهم وتفسير الثراء السعودي بتطبيق الشريعة وتعميم هذا التفسير شعبيا على المنابر مع بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" [الأعراف : 96] ليتسق تماما مع دعاوى الإسلام هو الحل والرخاء الذي يَعمّ البشرية في حال العودة للخلافة والحكم الإسلامي، وقد تُرجمت هذه المعتقدات في الملابس والأزياء حتى انتشر النقاب والحجاب ليس بصفتهم أزياء عربية صحراوية ولكن بصفتهم أزياء تقدمية تجلب الرخاء والثراء للمجتمع بعد الربط السابق ذكره بين الشريعة والمال.

كانت ظاهرة الأسلمة والصحوة الإخوانية تجتاح المجتمع المصري وتبشر بنمط في الحكم غير تقليدي مختلف تماما عن الشائع وقتها والصراع "العبثي" بين الشيوعية والرأسمالية ، حتى الحكم الإسلامي كتعبير مرادف لهذه الأمور في الطبيعة ومختلف في المعنى، أي أن الإسلام كان يوضع في حقيقته كتطبيق سياسي وسطي بين متصارعين مما أكسب هذا المعنى قبولا شعبيا تحت وعاء "الوسطية" وهو وعاء جذاب لامع يخدع أنصاف المثقفين ما بالك بمن دونهم، كون التوسط بين قبيحين ليس منطقا عقليا سليما في كل أحواله من ناحية أن تسمية القبيح هي نسبية في جوهرها، فما هو قبيح عندك ليس قبيحا عندي، ومن ناحية أخرى أن التوسط قد يكون انحيازا أو حيادا سلبيا ليس بالضرورة أن يحمل معنىً إصلاحيا أو لديه فكرة واضحة كالتوسط بين داعش وخصومها مثلا، هنا ستضطر إما لقبول بعض مبادئ داعش أو بعض مبادئ خصومها مع الحفاظ على العلاقة النفسية بين الطرفين وهذا هو الحياد السلبي أو يعد بشكل آخر انحيازا بطريقة غير مباشرة لفساد التوسط بين القاتل وضحيته..

في نفس الفترة أيضا بدأ الترويج لأعمال دينية تاريخية تهدف في جوهرها لإحياء هذا الحكم الإسلامي والتبشير بالرخاء المرافق له، وعلى هذا كانت برامج كاريمان حمزة والشعراوي ومصطفى محمود وأحمد فراج وغيرهم، ثم انتقلت هذه الثقافة لقطاع الفنون بالتلفزيون حتى صنعوا عدة مسلسلات لأئمة الجهاد والحديث والفقه الحنبلي السائد في الخليج كابن تيمية وعمرو بن العاص وأصحاب الكتب الستة كالترمذي وابن ماجة والنسائي ..وغيرهم، مع تطعيمات فكرية لمقاومة روح الثورة القادم من إيران وقتها أذكر منها مقولة الفنان "أشرف عبدالغفور" للشعب في أحد المسلسلات "أيما تكونوا يولّ عليكم ، فأصلحوا من أنفسكم ولا تلقوا باللائمة على الحكام" وهو اتجاه أكاديمي حنبلي لم ينقطع منذ ولاء الإمام ابن حنبل للخليفة المتوكل العباسي وإحياءه على يد ابن تيمية وجماعة الوهابية حديثا في صورة (طاعة الحاكم)..

وعلى هذا كانت طبيعة الفن المصري طوال 40 عاما، فكل عمل ديني هو يكتسب أمرين اثنين "طاعة الحاكم" و "الدعوة للشريعة" كأنه صادر من مقدمة محذوفه يأمر فيها الشيوخ ورجال الدين حكام مصر والعرب بسرعة تطبيق الشريعة الإسلامية المفقودة والتي ستأتي بالخير والعدل والرخاء للجميع..

فبرغم أن هذه الطبيعة الفنية كانت في جوهرها خلافة داعش وتطبيقاتها الحديثة في سوريا والعراق لكن قدامى الفنانين لهم عذرهم الشخصي، حيث لم يكن متاحا وقتها التبصر بحقيقة تلك الطبيعة مع الزخم السياسي والمعرفي الأحادي الصادر من التلفزيون والمنابر ومؤسسات الدولة، أي لا يمكن وصف تلك الطبيعة بالداعشية وقتها ما دامت لا تدعو إلى العنف ..لكنها كانت تحمل فكرا متطرفا يستوجب المراجعة كما حذر منه الدكتور فرج فودة وسائر إصلاحيين تلك الحقبة كالدكتور خلف الله وفؤاد زكريا والقرآنيين والتأويليين والعلمانيين والفلاسفة..

أي لم يكن الحس الإصلاحي وقتها غائبا بل كان موجودا لكنه ضعيف الشوكة لم يصمد أمام الزخم والجبروت الشعبي والسياسي المرافق لتلك الطبيعة الدينية، وبعد مقتل فرج فودة زاد هذا الحس ضعفا وبدأت تختفي جماعات الإصلاح شيئا فشيئا حتى انعدمت تماما في بداية الألفية مع صعود الإخوان المسلمين برلمانيا في مجلس الشعب خلال دورتيّ 2000 و 2005 إلى هنا أصبح نشر الوهابية الجهادية والطائفية متاحا فتم إنشاء عشرات القنوات الفضائية السلفية التي تحمل طابعا عنصريا لتترجم كل ما سبق إنشاؤه والعمل فيه دينيا منذ الهجرة الريفية ليختلط العرف الشعبي الريفي بالتحفظ الديني في كتب التراث لينتشر النقاب جدا في تلك الحقبة منذ عام 2006 حتى أنه يمكن وضع تاريخ النقاب المصري بين مرحلتين ما قبل عام 2006 وما بعده..

كانت هيمنة هذا التشدد الداعشي بطيئا ومؤلما جدا حيث جار على حقوق مشاهير كالدكتور نصر حامد أبو زيد الذي حكمت المحكمة بردته وتطليقه من زوجته مما أجبره على الرحيل من مصر والوفاه بأوروبا، فالدكتور نصر لم يواجه رجال دين وشيوخ فقط بل كان في مواجهة غير متكافئة مع جهل ديني وعنصرية وتقليد شعبي وقيم ريفية محافظة غزت المجتمع المصري ولا زالت مؤثرة عليه إلى اليوم، إنما الذي كان يشفع للدكتور نصر وقتها هم بقايا البرجوازيين والطبقة المتوسطة الأرقى معرفيا بحيث شنت جهدا مخلصا ومقالات ونشاطا معرفيا موجها للدفاع عن الدكتور والتبصر بحقيقة ما جرى وخطورة ما تنتظره مصر إذا استمر الوضع على ما هو عليه

لكنه في المحصلة لم يكن دفاعا علميا دقيقا بل في جوهره كان ربطا ساذجا بين قوانين الحسبة وخطورة حكم الجماعة المحظورة، بحيث لم يفصل حينها العلاقة بين الاحتساب وحكم الإخوان علميا من نواحي التاريخ والفلسفة، أذكر كنت قارئا في تلك المرحلة الزمنية لمجلة روزاليوسف لم ألحظ وجود أي نقد ديني حقيقي لكنه كان رفضا سياسيا فقط للإخوان غير متعلق بالموقف من التراث الديني، أو محاكمة ما آل عليه الوضع بعد الرئيس السادات من انتشار الفكر الوهابي وسيطرة المتشددين على قطاعات الدولة والفن، وفي هذه الجزئية ربما هذه النخبة معذورة أيضا فهي كانت أضعف من التأثير في هذا الزخم الذي نقل مصر من التقدمية للرجعية، ولأن الطبقة الريفية المتنامية في الحضر وقعت تحت تأثير الخطاب الوهابي للدولة والإعلام فكأن روزاليوسف وكتابها ومثيلاتها كانوا في مواجهة مع الشعب في الحقيقة وليس فقط مع رجال الدين ومظلومية د نصر.

أذكر في تلك الفترة أن الشيخ والنائب "صلاح أبو إسماعيل" استجوب وزير الثقافة المصري "فاروق حسني" نهاية الثمانينات عن مقولته " بأن التطرف يجب أن نقاومه بإحلال الخيال المادي محل الخيال الغيبي" (الإخوان في البرلمان صـ 250) وهو يقصد أن يحل الواقع مكان المثال أو التجربة محل النظريات النسبية، لكن الشيخ أبو إسماعيل لم يفهم طرح الوزير فقدم استجوابا يتهم فيه السيد فاروق حسني بالكفر لأنه ينكر الغيبيات، وفي الحقيقة أن فاروق حسني لم يتطرق للإنكار ولكنه يتحدث بمنطق حداثي يؤمن بأن نطاق الغيبيات له سياقه العلمي الخاص في الإيمان حسب القاعدة الكانطية الشهيرة والتي وافقه عليها الشيخ رفاعة الطهطاوي في القرن 19، وأن مواجهة التطرف يجب أن تكون بإخضاع رؤى المتطرفين للتجربة ومناقشة مآلاتها العقلية والاجتماعية بالضبط كما كان يحدث من د فرج فودة حين أحرج الإسلاميين في وضعها بمقارنة لطيفة مع الواقع لإثبات زيف أفكارهم وانتمائها لعصر مختلف.

فلسفيا يمكن تفسير ما جرى أنه لم يكن فقط انتقالا معرفيا للأسوأ ولكنه كان انتقالا فنيا أيضا نتج عنه استبدال الذوق المصري بالخليجي فشاعت في مصر شرائط وخطب وقراءات سعودية وكويتية وقطرية مع احترامنا لتلك الشعوب، وهجر الناس قرآن الحصري والطبلاوي وعبدالباسط لقرءان مشاري والعجمي والسديسي والشريم والقحطاني، فالذي جرى كان تحولا أكسيولوجيا كبيرا أثر على القيم الجمالية والأدب الشعبي حتى صار الإعلام الوطني في عزلة شبه تامة عن ثقافة الشعب ليس فقط بوصفه صادرا من الدولة ومتحدثا باسم سلطة استبدادية غير ديمقراطية، ولكنه متحدثا باسم الأزهر وعلماء السلطة الذين حاربوا الشريعة لخدمة الحكام كما كانوا يوصفون دائما في أوساط الجماعات.

لكن الذي لم ينتقل هو الفلكلور الريفي المصري الذي احتفظ بطابعه الفني وكان حاضرا بزخمه المعتاد في الأفراح والحفلات، حتى مع محاولات الشيوخ تحريم كل ما يخص الهوية المصرية والعالمية من أعياد ..كشم النسيم وعيد الأم واحتفالات النيل لم ينجحوا في إقناع المصري بترك هذه الأمور وظل المصري البسيط يغني ويبتهج في موالد الأولياء وحفلات الزفاف وجلسات السمر وغيرها، كأن المصري في وعيه الباطن كان يدافع عن هوية عميقة لها امتداد منذ آلاف السنين لا تتعلق بأديان ونجح في عبور كل محطات التاريخ المؤلمة منذ دخول أول غازي آشوري مصر في الألف الأول ق.م حتى رحيل الإنجليز سنة 1956م

إنما تلك الهوية المصرية كانت تنشط بمعزل عن الموقف من الدين والفنون الصادرة من الدولة، أي لو كانت حكومة مبارك ديمقراطية أو لديها القدرة على خطاب الشعب ربما كان الوضع تغير نوعا ما في إقناع المصري البسيط بكل ما يصدر عن الحكومة والدولة من أفلام ومسرحيات وفنون..إلخ، فالمصري وقتها الذي كان عنصرا في الخطاب القيمي الريفي والوهابي كان ينظر لكل ما تمثله الدولة أو يصدر عنها بمنطق المؤامرة، فكل فيلم أو مسرحية تنتقد الشيوخ هي مؤامرة لصالح الفاسدين، حتى رجال الدين وقتها أكثروا من تفسير ما يحدث بأنه رفضا للقيود الدينية والامتثال لحكم الله في الشريعة، فتم الربط آليا بين سلوكيات الدولة والمشاهير وبين كفار قريش الذين حاربوا الرسول، وهذا هو المبعث السيكولوجي الشعبي لتكفير الفنانين واعتبارهم فساق مبتدعة في هذا الزمن..

وقد ساهمت تلك الثقافة في تسريع اعتزال الفنانين واستجابتهم لدعاة الإسلاميين في ترك الثقافة والفنون بالكلية، فالهدف لم يكن الفن المصري بمفرده ولكن استبداله بفنون أخرى كالتي شاعت في الأفراح الدينية باستعمال الدف والغناء بدون موسيقى مع تأثيرات صوتية وتكنولوجية خالية من آلات المعازف، وهي نفس الفنون الصحراوية التي يمكن عذرها بندرة آلات الموسيقى في البقاع المعزولة، وصعوبة صناعتها أو انعدام الخبرة بها علاوة على عزلة المجتمع الصحراوي التي أفقدته الإبداع اللازم للحن المتنوع والعميق واضطراره في غالب أحواله لنوع واحد من الفن واللحن المتناسب مع شخصية القبائل، إضافة لأن ذهنية الصحراويين فقيرة هندسيا بحيث لا تفلح في تكوين صور ذهنية دقيقة فتظل مقيدة بشكل بدائي من التفكير مختلف عن أصحاب المجتمع الزراعي الذي تتعدد فيه الصور الهندسية بكثرة وهو جواب يفسر لماذا كل فلاسفة البشرية تقريبا نشأوا في مجتمعات زراعية وأن النهضة الحضارية ظلت غائبة عن مجتمع الصحراء.

وفي السابق طرحت نفس الفكرة لتفسير كيفية لجوء مجتمع الصحراء للتدين العنيف كونه عاجز عن تصور نمط مختلف عن الأبيض والأسود كألوان تمثل طبيعة مجتمعه الفقير هندسيا، وأيضا لتفسير لجوء هذا النوع من التدين للظاهراتية الفكرية البعيدة عن التأويل، وقد ضربت أوضح نموذج لهذا التدين الظاهري في جماعة الوهابية التي جمعت بين التدين العنيف والظاهرية الفكرية بمعنى العجز التام عن التأويل أو تخيل معانٍ غير ظاهرة للنصوص حتى صار وصم خصومهم بالباطنيين شائعا كونهم لا يقدرون على تصور معانٍ غائبة عن النص الأصلي..بينما في القرآن مثلا نجد أن هذا التأويل الباطني مشروع ومطروح بكثرة وقد سلكه أئمة كثيرون كالغزالي والشهرستاني وابن حجر والسيوطي وابن كثير وسائر فقهاء الأشاعرة القدامى، حتى ابن تيمية في بعض أحواله كان باطنيا بالمعنى الذي يكرهه الصحراويون لسبق نشوء ابن تيمية في مجتمع حضري زراعي، لكنه ظل على تدينه العنيف الذي كان عبارة عن ردود أفعال ضد خصومه من كثرة مناظراته والضغط عليه عصبيا ونفسيا..

لنا عودة..


إشكاليات السرد التاريخي لروايات الملاحم

0

 في روايات وملاحم آخر الزمان تُطرَح بعض الأسئلة ، وهي هل في الإمكان أن يشارك المسلم في تلك الأحداث الدرامية كالمهدي والدجال ونزول المسيح ويأجوج ومأجوج وفتح الهند والقسطنطينية وغيرها؟ أم أن المشاركة لم يكن طرحا مقبولا في زمن النص أصلا؟..وبرغم سذاجة السؤال ظاهريا لكنه يحوي معنىً دقيقا وهو التفريق بين الفرص المحققة وغير المحققة..


مثلا عندما ينزل المهدي ويحارب وينتصر بنفس السياق الدرامي العنيف المذكور في الروايات سيكون المسلم وقتها على علمٍ تام بالأحداث والنتائج، وقتها سيكون أمام إحدى خيارين، الأول: أن يشارك في الحدث وهذا لم يُذكَر في الملاحم ولا يتخيله أن يكون جزء من الحديث النبوي، والثاني: أن لا يشارك فيترقب النتائج دون الشك في حتميتها، بالضبط كمن شاهد فيلما دراميا أو أكشن أو رعب وهو يعلم بكل تفاصيله ونهايته لسبق مشاهدته عدة مرات، لكنه منجذب داخليا للسياق كأنه يراه أول مرة..

تلك الخيارات المطروحة تدخل ضمن الفرص المحققة، أي بإمكان المسلم تحقيقها حتى لو لم يشارك في الحدث ..لكن ما لا ينتبه إليه البعض أن هناك جانبا مختلفا وهو الفرصة غير المحققة، أي أنها فرصة لكنها غير قابلة للتحقق وهي أن العالم تجاوز بيئة هذا النص ولم يعد في إمكانه العودة، كوصف المعارك بالسيوف والرماح والسهام والخيول..هذا انتهى، وقانون السببية يتطلب إحيائه - كما قلت منذ سنوات في دراسة المسيح الدجال - أن يلزم ذلك تدمير العقل البشري ليعود إلى نقطة الصفر ليبحث عن سلاحه البدائي، ليس كما يزعم الشيوخ في تحرير تلك النقطة أن الله سيدمر كل الأسلحة المعاصرة..والجواب: أن تدمير السلاح لا يعني تدمير العقل الذي أنتجه، وبإشكالية أخرى أن بدائية العقل لو تحققت ليبحث عن سلاحه من جديد ليس شرطا أن يكون بالسيوف والرماح فلربما العقل البشري الجديد يفطن لسلاح مختلف ولكنه بدائي.

السببية هنا تعني تماسك الطرح وواقعيته، وإشكالية النص الروائي تظل في طبيعته الأدبية الخيالية التي لم تكن حينها بحاجة لسببية كي تقنع الجماهير، فالعالم قبل 1000 عام هذه كانت حياته وحروبه والنص المتماسك يحاكي بالضبط طُرق معيشته، وهذا يفسر كيف أن جمهور وغالبية فقهاء المسلمين لم يشكوا في تلك الروايات حتى بعض المعتزلة الذين خالفوا الجمهور في العقائد ذهنيا لم يخالفوهم روائيا في هذا الجانب لتعلقه بالسياسة، وقد سبق الإشارة في محاضرتي عن المعتزلة كيف ولماذا لم ينكر القاضي عبدالجبار مثلا عقيدة قتل المرتد وأن بعض شيوخ الاعتزال كانوا أصوليين سنة في هذا الجانب..

مما يدل أن النص الروائي في الملاحم كان عشوائيا من الناحية العلمية بينما كان منظما من حيث الجانب الاجتماعي اللائق لجماهير القرون الوسطى، ولولا غياب التفكير بالحدس في تلك العصور لوصل الفقهاء إلى الشك في طبيعة ومعقولية تلك النصوص وأنقذوا مجتمعاتهم من الخرافة والادعاء المتكرر بالمهدوية والمسيحاوية، وفي تقديري أن العقل الحدسي الغائب عن فقه المسلمين هو السبب في غياب العقل الكلي لصالح النقل والتقليد، والمقصود بالحدس هنا أن تنظر للنصوص من خارج الصندوق لا الاستغراق بداخله ومحاولة تفسير كمّ التعارضات والإشكاليات بنفس المنهج التقليد وهو المقاربة الروائية لا أن يجعل الذهن حكماً على هذا الصندوق

والحدس قد يشار إليه بصيغة أخرى هي الوجود، أي كان مطلوبا من بعض الفقهاء أن يهتموا بموقفهم الوجودي من الروايات والملاحم..وفي التراث توجد بعض الإشارات على هذا الموقف الوجودي الشخصي من الملاحم كموقف الإمام "أحمد بن حنبل" مثلا والذي يرفض المغازي والسير والتاريخ ..فادعى تلاميذه أن رفض إمامهم لتلك العلوم سببه غياب السند الكافي للوصل، وبرأيي أن هذا تزوير من موقف الإمام..فابن حنبل كأي محدث عاش في عصر المتوكل ومن بعده لم يقبلوا كتب التاريخ السابقة كأعمال ابن إسحاق والواقدي لإنصافها المذهب الشيعي ومن يسموهم القدرية تاريخيا، وابن حنبل كان له موقفا وجوديا مذهبيا قام على إثره بتكفير الآخرين كما تقدم في دراسة موقفه التكفيري من الإمام أبو حنيفة النعمان منذ سنوات، وهو إمام أهل الرأي الخصم الأشهر لمدرسة الحنابلة..

أما تبرير أتباع ابن حنبل لرفضه المغازي والسير بغياب السند فهو يعود لموقف هؤلاء التاريخي الذي صاغه ابن تيمية وأحيا به فقه المحدثين والحنابلة بالخصوص كعلماء مذهب معتبرين، وهم من كانوا قبل ابن تيمية أصبحوا في عداد المشبهة والمجسمة والجبرية كالدارامي وابن خزيمة والبربهاري، فقد مات هؤلاء في ضمير فقهاء السنة بعد تكفيرهم لكل من لا يقل بمذهبهم أن الله في السماء ووصفوا خصومهم بأوصاف مكروهة كالمعطلة والجهمية وغيرها، حتى قام ابن تيمية باستدعاء أفكارهم وفتاويهم ضمن سلسلة أعمالة الواسعة ومصنفاته التي بلغت المئات مما أعاد للحياه أفكارهم وللمجتمع سطوتهم..

وسبق القول أن إحياء مذهب أهل الحديث في عصره الثاني على يد ابن تيمية أعاد للسردية القديمة في زمن المتوكل هيبتها، فقد أحيا قدسية الصحاح والكتب التسعة وأعاد الاعتبار للسند مثلما أهمله من قبله كابن عبدالبر والبغدادي والغزالي والطبري وغيرهم، حتى أن حياة ابن الجوزي البغدادي بين هؤلاء وابن تيمية كانت كطيف عابر ليس له أثر لشيوع رؤية مختلفة عن الروايات تقول أنها مجرد دليل لفهم الدين وليست أصلا من أصول الدين، مما يعني أن نشاط ابن الجوزي في فحص وترتيب وتهذيب الروايات والخروج بموسوعته عن الضعيف والمنكر لم تشتهر في زمانه والدليل أنها غابت عن معظم أدلة وحجاج فقهاء عصره ومن خلفوه حتى جاء ابن تيمية وأحيا فقه السند مرة أخرى ليعود ابن الجوزي للواجهة ويتم اعتماد علم الحديث كعلم معتبر وأصلا من أصول الدين

وسبق القول أيضا تقسيم عصور الحديث لأربعة، فالأول منها هو عصر البخاري وابن حنبل والثاني لابن تيمية وابن الصلاح والثالث لابن عبدالوهاب، والرابع للألباني والجماعات الذي نعيشه، وقد عمدت إلى تصنيف عصور الحديث بهذا الشكل ليسهل علينا فهم الحقب التاريخية السابقة على هذا النحو كي يتيسر نوعا ما فهم المراحل الوسيطة بين تلك العصور، فالطبري والغزالي والبغدادي مثلا عاشوا في مرحلة وسيطة بين عصريّ حديث لم يلزموا في فهمهم أصول السند، لذلك غابت عن كتبهم دقة علم الرجال وكثرت في مصنفاتهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة، نفس الشئ علماء كالسيوطي وزكريا الأنصاري وابن حجر الهيثمي وغيرهم الذين عاشوا في مرحلة وسيطة بين زمن الإحيائين الثاني والثالث..وهكذا..

برغم أن السردية التاريخية الطبيعية لتراث السنة أضعف في كثير من جوانبها من سردية أصحاب المراحل الوسيطة، فهذا السيوطي الذي ألّف في كل شئ من الفقه والتاريخ والتفسير والجنس يكاد يكون موسوعة علمية مقارنةً بالإمام يحيى النووي، فالثاني اشتهر بالأربعين حديثا في الصحيحين وهو بذلك يكون أقرب لعلماء الحديث وسرديتهم ..لكنه في باب العلم والوعي التاريخي أضعف بكثير من السيوطي لكنه تميز بالتصنيف الفقهي والأخلاقي فقط مما يعني أن النووي حسب معاييرنا الحديثة هو صاحب عقل تحليلي إسلامي مقيد بالمتاح ولا قدرة له على تجاوزه كسائر فقهاء المسلمين القدامى، خلافا للسيوطي الذي يمكن وصفه بالكمبيوتر المتنقل مما ساعده على تجاوز بعض الثوابت السنية في عصره كموقفه من عائلة النبي وعمه أبي طالب وجرأته بالكتابة في الجنس لحد قد نراه حاليا (تجاوزا أخلاقيا) في الدين والعُرف..

هذا يعني أن التقيد بالروايات وأصول تحقيقها في السند لا ينتج فقط جمودا وخرافة أدت لشيوع المهدوية وقلاقل سياسية متعلقة بالعقيدة، ولكن أنتج أيضا انفتاحا علميا لطبيعة الرواية الصادرة من أنفس متعددة لها تفكير نسبي مختلف، والدليل على ذلك أن مثال السيوطي الذي تجاوز بعض ثوابت السنة في عصره تكرر قبل الرجل ب 6 قرون مع الإمام الطبري الذي لم يهتم بالسند واعترف بذلك في مقدمة كتابه عن التاريخ، لكن انفتاحه العلمي أدى به لرفض ثوابت سنية أصيلة كأفضلية أبي بكر عن عليّ بن أبي طالب فقام بتصحيح حديث "من كنت مولاه فعليّ مولاه" وقال بتواتره فكان سببا في إنهاء حياته وضربه من طرف الحنابلة.

ولولا أن السببية في البعد التاريخي غائبة ما حدث ذلك حين قتلوا الطبري أو عندما أحيا ابن تيمية فكر خصومه، وأقصد هنا بالسببية التاريخية هي الربط بين علامات التاريخ الكبرى وأحداثه العظمى المفصلية كمقدمة للربط بين الصغائر والروايات المتوسطة، فحدث تاريخي كبير كسقوط الدولة الساسانية كان يلزمه تجريد هذا السقوط علميا والبحث في أسبابه وكيف أن سقوط الدولة البيزنطية تأخر عن هذا التاريخ 8 قرون متصلة كان فيها الإمبراطور المسيحي قويا، وما العوامل التي أدت لنجاح العرب في دخول مصر والشام وأفريقيا وانتزاعهم من البيزنطيين بينما فشلوا طوال هذه المدة في غزو القسطنطينية، وبينما الرد الشهير موجود بحصانة المدينة وقوتها ومنعتها لكنها بأي حال لن تكون أقوى من حصانة طيسفون الساسانة الواقعة على شرق نهر دجلة..

فقبل أن يسقط العرب بلاد فارس كان لديهم مانعين مائيين قبل الوصول لطيسفون هما الفرات غربا ودجلة شرقا، وضيق مساحتهم عرضا يسهل للطرف المدافع عن نفسه أن يجعل من هذين النهرين موانع مائية كبيرة كما جعلت إسرائيل قناة السويس مانعا لحمايتها، أما القسطنطينية فليس هناك مانعا مائيا يحميها سوى البحر الأسود شمالا وبحر مرمرة جنوبا، ولكي يصل العرب للبحر الأسود عليهم اجتياز آسيا الصغرى أولا هذا على فرض صعوبة الوصول لبحر مرمرة وشدة تحصينه من ناحية بحر إيجة، وبالتالي الطريق كان مفتوحا للعرب لإسقاط البيزنطيين شريطة أن يمروا من آسيا الصغرى للبحر الأسود..وهذا لم يحدث لجهل مؤرخي العرب بأسباب النصر واعتمادهم فقط على الحشد الديني الذي كان الروم حينها يجيدون الحشد بنفس الدرجة على ناحيتين، آسيا الصغرى شرقا وأوروبا غربا

فقبل الانشقاق المسيحي العظيم في القرن 13 م كان مسيحيو أوروبا كتلة واحدة فكان سهلا على إمبراطور بيزنطة أن يحشد دفاعا عن مدينته بوازع ديني، وأن يخلق من بيئته المحيطة حصونا دفاعية عسكرية هي التي عطلت المسلمين طوال 8 قرون عن إسقاط الدولة البيزنطية، وتأثير هذه الأحداث العظيمة تاريخيا كبير حيث لم يتوقف على التغيير السياسي بل عقبه تغيرا كبيرا في الأفكار أدى بعد سقوط بيزنطة إلى هجرة عقول المسيحيين المكبلة تحت إمرة حكم الإمبراطور المركزي الديني لأوروبا الوسطى والغربية فحدثت أعظم نهضة إنسانية في التاريخ والتي يعيشها الإنسان المعاصر، أي لولا سقوط بيزنطة تاريخيا ما تقدمت أوروبا، في حين أن سيطرة العثمانيين على القسطنطينية لم تجعلهم متقدمين بل حُسِبَت إمبراطورية آل عثمان على أشد الدول تخلفا عقليا وعلميا في التاريخ الإنساني

كذلك لولا سقوط بيزنطة ما شعر مسيحيو أوروبا الغربية بالخطر ليجتمعوا على مسلمي الأندلس ويطردوهم في خلال 4 عقود، فكان التعادل سيد الموقف..هزيمة هنا ونصر هناك، بينما هذه الطريقة السببية في التفكير كانت غائبة عن فقهاء القرون الوسطى لتصبح لديهم القدرة على فهم التاريخ الذي هو مفتاح فهم الإنسان وحضارته بشكل عام..

وأختم بأن موقف المسلمين من التاريخ لم يكن مبنيا فقط على جهل به أو بأبعاده وفلسفته، ولم يتوقف على أطماع وأحقاد السياسة أو قصور الإنسان وتعاطيه الغبي مع العالم..ولكن أيضا كان لجهل المسلمين بعلم النفس دور كبير في الجهل بمصدر أخبار الملاحم والفتن والخرافات، فكلما كانت النفس عشوائية غير مرئية كلما كانت معقدة غير مفهومة وبالتالي يصعب التحكم فيها أو الوصول لهيكلها التنظيمي، وأزعم أن علم النفس حين ظهوره أعطى زخما للفكر من تلك الناحية، فبدأ الإنسان يرى عشوائيته النفسية السابقة بطريقة منظمة مفهومة ويربط بين الأسباب والنتائج بشكل صحيح حتى انتشر الطب النفسي المجرب وأصبح ساحة علوم كبيرة ومهمة دخلت في شتى الجوانب العلمية كالدين والمجتمع والسياسة والاقتصاد

وجهل المسلمين بعلم النفس هو مصدر جهلهم بسلوك الإنسان ودوافعه، فعندما نظر الفقهاء في روايات الملاحم والتاريخ مثلا لم يهتموا بالدوافع قدر اهتمامهم بالنتائج وقبول تلك الروايات عقائديا وسياسيا، فحين يقبل الشيخ رواية تاريخية ويرفضها فعن سياسة ومعتقد..لا دخل هنا بالجانب النفسي الأهم الذي في غالب أحواله هو مصدر نشوء تلك الرواية، وفي ظني أن فقدان المعلومة التاريخية أثر بشكل كبير بحيث أعطى للفقهاء المسلمين تبريرا مناسبا لموقفهم والشك في أي نتيجة أخرى حتى لو كانت منطقية وعلمية، وإلى هذا تدور دفاعات الشيوخ عن التراث، فحين يعجزون عن تبرير موقفهم علميا وأخلاقيا يشككون في السردية الأخرى وينزعون عنها صفة الإجماع وفقدان المصدر، بينما نفس هذا السلوك الفقهي يوجه كدليل ضدهم خصوصا وأنهم فئة تعتقد بالأغلبية والإجماعات لاسيما أن هذه الطريقة في الاعتقاد يسهل دحضها بعرض واكتشاف الرأي الآخر أو أي تأويل عارض مختلف..
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقدمة في دواعش الفن المصري (5)

 منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أ...

سامح عسكر

موقع الباحث سامح عسكر الرسمي