مقدمة في دواعش الفن المصري (2)

0

 إن أسوء ما تم إنتاجه في عصر الصحوة الإخوانية من حيث التأثير السلبي والمعرفي على المجتمع هي الأعمال الفنية في تمجيد وتعظيم المحدثين وزعمائهم، ولو كانت هناك دراسة بصراع هؤلاء المحدثين مع أهل العقل والرأي لأفقد حماس هؤلاء الفنانين في تقديس هؤلاء الرواه وتصديرهم ليس فقط كعلماء ولكن كأنبياء لا يأتيهم الباطل، ويمكن وضع أعمال الفنانين حسن يوسف وأشرف عبدالغفور ومحمد رياض في تعظيم المحدثين والأصوليين تحت هذا الإطار فهم الذي أدوا شخصيات "النسائي – وابن ماجة – وابن تيمية- والترمذي – والبخاري وابن حزم – والغزالي..وغيرهم"


وفي الجزء الأول من هذا اللقاء استعرضنا أصل نشوء الأصولية والدعوة للشريعة وتحويل المجتمع دينيا للنمط الصحراوي الوهابي منذ السبعينات، وبالتالي ينطبق ذلك على أعمال الثمانينات لعزت العلايلي ويحيى شاهين في تعظيم مؤسسة الأزهر بمسلسل " الأزهر الشريف منارة الإسلام" سنة 1982 م وفقهاء ومؤرخين كالطبري ومالك والشافعي وقادة عسكريين عمرو بن العاص..وغيرهم، إضافة لأعمال المذكورين في تعظيم فقهاء الأزهر كالمراغي وعبدالحليم محمود والشعراوي الذين كانوا حكرا للفنان "حسن يوسف" في عرض سيرتهم الذاتية بمسلسلات كاملة ومنفصلة.

نلاحظ في هذه الحقبة غياب الشخصية المصرية وتاريخها عن الفنون الإذاعية والدرامية والسينمائية، فكل من تم ذكرهم إما غير مصريين في الغالب أو مصريين يحملون فكرا أصوليا نشأ بعد الهجرة الريفية إلى المدن التي سبق الإشارة إليها في الجزء الأول أنه انتقال من التدين المصري البسيط إلى التدين العنيف المتشدد، ومسلسل الشعراوي كان في هذا الإطار يجمع بين العرف التقليدي للريف والمحافظة الدينية للتراث حتى أن شخصية الشعراوي يمكن اعتبارها مجمع لكل القيم المحافظة والمتشددة في هذا العصر من ناحية تكفيرها للأقباط واحتقارها للمرأة وتشددها في الأزياء والصلاه والصوم وغيرها، مما يعني أن اتجاه الأسلمة كان طاغيا على الفن المصري آنذاك حتى أنه لم يخطر على بال المنتجين مثلا إبداع مسلسلات عن أعمدة الاستنارة المصرية كطه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة وروائيين كبار كيحيى حقي وعبدالقدوس ..وغيرهم

حتى مسلسل طه حسين الذي عقد أواخر السبعينات للفنان أحمد زكي قدمه كشخصية أزهرية وليس مفكرا شكوكيا يستعرض تاريخه في الفلسفة الديكارتية، بدليل القفز على حقبة العشرينات والثلاثينات في حياة العميد التي أنتج فيها معظم أعماله المستنيرة التي أصبحت لاحقا مصدرا للنقد الأدبي والعلمي للعرب، ويمكن اعتبار مسلسل طه حسين وقتها أنه تأثيرا سياسيا واجتماعيا كان يريد تقديم الأزهر كمؤسسة دينية مستنيرة تدعو للشريعة وتبشر بالرخاء المقبل مع شركات توظيف الأموال، نفس الشئ ينطبق على مسلسل رفاعة الطهطاوي في الثمانينات لشكري سرحان والذي قدم الشيخ رفاعة كشيخ أزهري مترجم وليس كمعلم مستنير ناقد للثقافة المحلية، ويلاحظ أن توقيت عرض المسلسلين كان مرافقا لنشاط هذه الشركات إضافة لقانون تطبيق الشريعة الأزهري الذي قدمه عبدالحليم محمود سنة 1978 ليوافق عليه البرلمان والرئيس ثم يؤدي لاحقا لفتنة طائفية دفعت البابا شنودة للاعتكاف..

وهذا القانون الأزهري كان يتضمن الدعوة إلى تطبيق ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي والمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وهي نفسها كانت مصطلحات الجماعات التي أنتجت لاحقا شركات توظيف الأموال ومطالبة المسيحيين بدفع الجزية، وضمن هذا القانون كان التبرج محظورا بنص مادته رقم 14، أي نسخة من الثورة الإيرانية وفرض الحجاب، كما طالب في مادته رقم 6 الخاصة بالمحتسب بتشكيل جماعة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أي كانوا يريدون إحياء نفس النموذج السعودي في مصر ، كذلك المادة رقم 44 الخاصة بالإمام ووجوب طاعته والمادة 47 بمنع ترشح غير المسلمين لرئاسة الجمهورية، إضافة لفتوى دار الإفتاء المصرية عام 1978 بتطبيق حد الردة على مسلم تحول للمسيحية، وهي التي أشعلت غضب الكنيسة باعتبار هذا القانون يستبيح دماء المسيحيين بمجرد شهادة مسلمين على ردة أحدهم..

في هذا السياق يجري فهم مسلسلات تعظيم الأزهر في تلك الحقبة باعتبارها داعية إلى نفس المشروع الديني، خلافا للرؤية السطحية التي ترى الأزهر مثلا بعيون 2020 الذي يصدر فيها فتاوى ضد الجماعات لظروف سياسية ويضطر آسفا للتنازل عن فتوى وجوب الخلافة كفائيا عام 2011 ليفتي شيخ الأزهر بأنها نموذج حكم وليست فريضة بعد سقوط الإخوان في ثورة يونيو، أي أن الأزهر في سلوكه العام كان براجماتيا نفعيا أراد التقرب للسلطات خوفا من بطشها وإحياء آلام زعمائه في عصر الباشا محمد علي في القرن 19 م ومن ناحية أخرى بقاء المذهب السني وتفريعاته الأربعة لإرادة سياسية بعدم انتقال مصر للعلمانية أو التشيع كما يخاف الشيوخ وتدفعهم الهواجس يوميا للتحذير من خطر هؤلاء على مصر.

أما عن وضع أقباط مصر في هذه الحقبة كان محزنا ، فهم كانوا ضحية لمواجهة بين السلطة والجماعات لسبب واحد هو : أن السادات تبنى قاعدة (إسلام الدولة) مقابل (إسلام الجماعات) يعني بدلا من مشروع الشريعة للجماعات تقوم الحكومة بتطبيقها أولا لإرضاء التيار الإسلامي المطلوب دعمه في مواجهة الشيوعيين، وثانيا لنفي صفة الكفر عن السلطة في صراعها مع التنظيمات الجهادية أعقاب توقيع كامب ديفيد، وبالفعل أصدر قانون تطبيق الشريعة نهاية السبعينات ووافق عليه مجلس الشعب كما ذكرنا..ولولا انتفاضة الأقباط واعتزال البابا شنودة ما تم إلغاء القانون..

كانت من مظاهر قاعدة السادات برنامج الشعراوي الأسبوعي ممثلا لإسلام الدولة ، مقابل شرائط الشيخ كشك الممثلة لإسلام الجماعات شعبيا، وكلا الشيخين الشعراوي وكشك كانت لهم مواقف متشددة من الأقباط تحت سمع وبصر الدولة، فالشعراوي كان يُكفّر المسيحيين في خواطره الأسبوعية بشكل دوري وإسقاط بعض آيات الجهاد والجزية فيهم أحيانا، لدرجة أن سؤال: هل أنت مسلم أم مسيحي أصبح دارج شعبيا، برغم أنه حتى منتصف القرن 20 لم يكن وارد خصوصا في الإعلام ومؤسسات الدولة وهي الحقبة التي أشرنا إليها في الجزء الأول أنها ما قبل الهجرة الريفية إلى المدن وسفر المصريين إلى الخليج..

تطبيق الشريعة الساداتية كان يلزمه تعطيل المجلس المِلّي المسيحي وبالفعل تعطل المجلس جزئيا تمهيدا لفرض الشريعة الإسلامية على الأقباط، هنا أصبحت مطالب المسيحيين بالمساواه مع المسلمين متأخرة عن ضرورة حمايتهم من السادات وجماعاته التي أطلقها لمواجهة الشيوعيين، وبنظام عدو عدوي صديقي ظهر أن حكومة السادات تعاملت مع الأقباط كحلفاء للشيوعيين ضده وهو الذي ساهم في إشعال الأزمة الطائفية في مصر بعد سكونها مؤقتا في فترة عبدالناصر، علما بأن مطالب المسيحيين في مصر تتلخص في خمسة مطالب هي (حرية بناء الكنائس – الأحوال الشخصية – الدعوة والتبشير أسوة بالمسلمين – الوظائف العامة – اعتراف الدولة بهم في التعليم والإعلام) لكن هذه المطالب لا يمكن تحقيقها في ظل وجود المادة الثانية في الدستور..لذلك طالب الحقوقيين بإلغائها كحل وحيد لحل المشكلة القبطية، وبعد مجئ الإخوان واختراعهم للمادة 7 بتمكين الأزهر أصبح دستور مصر إسلامي متعارض مع مواد الحريات..وهذا يعني أن المطلب القديم بإلغاء المادة الثانية أضيف له إلغاء المادة 7 واعتبار مؤسسات الدين كيانات دعوية خدمية للمجتمع لا تضمن في الدستور.

مشاكل الأقباط كثيرة لكن هي الآن في مرحلة سكون عن مناقشتها دون علاجا حقيقيا يحمي المصري المسيحي من تغول الدولة ومن المتطرفين المسلمين، وقد تحدثت مع بعض الأصدقاء المسيحيين الذين قالوا: بأن الدولة استولت على أوقاف المسيحيين وضمت بعضها لأوقاف المسلمين في زمن السادات ومبارك، علاوة على مطالبتهم بتضمين حصة من الموازنة العامة للمعاهد والمدارس القبطية أسوة بالأزهر والأوقاف..وهي مطالب مشروعة كنت أود حلها في البرلمان الحالي ولو تتذكروا قلت أن فرصة إصلاح وضع الأقباط في مصر الآن لن تُعوّض بدخول العشرات منهم في البرلمان..لكن تبين أن الذين دخلوا كانوا ضعفاء وأقل من تحقيق حلم الأقباط بالعدالة.

نعود لمسلسلات المحدثين في الفن المصري فهي لم ترفع شأن هؤلاء الشخوص فحسب بل رفعت من قيمة النقل على العقل حتى صار استخدام العقل في مصر منذ 40 عاما وإلى الآن مستقبحا، وصار من الدارج أن يتهم العوام كل من يعمل عقله في النصوص أن يُتهم بالبدعية والرد الساذج الشهير بأنه لو كان الدين بالعقل لأصبح مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، وهو قول ساذج منسوب للإمام "عليّ بن أبي طالب" ظهر في فترة الصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث بعد موت الرسول ب 200 عام..إذ لم يعرف الصحابة أصلا هذا الصراع بين العقل والنقل لقربهم من زمن الرسول وسهولة الحصول على المعلومة والشرح وحرية التفكير في النص كما شاع في سلوك الصحابي "عمر بن الخطاب" الذي أوقف العمل بالعديد من الآيات اجتهادا..

والعلم كذلك ضد هذه المسلسلات، ففي علم النفس ما يسمى بالذاكرة الكاذبة False Memories وتعني أن الإنسان يتوهم أحداث حقيقة له بمقدمات وتفاصيل محكمة رغم أن هذه الأحداث في حقيقتها أو جزء منها (وهمي) لكن الذهن يعتقد بصوابها كأنها شريط فيديو، وبالتالي وجود هذه الذاكرة يدحض كليا ما يسمى علم الحديث الذي قام في أساسه على قوة الذاكرة للمُحدّث فرضا بصدقيته ونزاهته من التأليف، وعلى فرض أنه ينقل رأي الشاهد والسامع لعدة أجيال متصلة وهذا مستحيل..

ال False Memories هنا تطعن في هذه الذاكرة وتجعلها عرضة للوهم واعتقاد أحداث وخيالات لا صلة لها بالواقع، والتجربة شهدت تأليف أحداث وشخصيات وهمية كثيرة في التراث دفعت المحدثين لاختراع ما يسمى "علم الرجال" أو التسليم بأن خبر الآحاد كله ظني الثبوت لاعتقادهم بأن الشرط الوحيد لصدق تواتر الخبر هو نقله عن جمع غير معلوم العدد، ناهيك عن انهيار هذه الذاكرة بشكل عنيف عند كبار السن، والسادة المحدثين ظلوا يعملون في هذه المهنة حتى بلوغهم العَجَز ، وبالتالي فاحتمال انهيار ذاكرتهم وتوهمهم أحداثا زائفة كبير لم ينتبه له الأوائل لجهلهم أول شئ بالفلسفة وعلوم النفس..ثانيا لضعف التواصل الاجتماعي بشكل يضعف فيه من عمليات التحقق.

علاوة على التجربة الشهيرة المعروضة على وسائل الإنترنت بجمع صف طويل من الشباب الذين أخذوا تعليماتهم بنقل (الإشارة اليدوية) من أول الصف إلى منتهاه، ثم تأتي الإشارة من الخلف بينما عيونهم للإمام كي يجهلوها..بالضبط كطبيعة السند في الطبقات ، الأول يعرف الثاني، والثاني يعرف الثالث، بينما الثالث لا يعرف الأول، وعندما وصلت الإشارة لآخر الصف (تغيرت) الإشارة اليدوية تماما، وهذا يثبت أن صحة السند لا تكفي لصدق الرواية، فكل واحد ينقل حسب طبيعته وإمكانياته المختلفة عن الآخرين..هذا بافتراض (حُسن النية) وحدوث التواصل الجسدي بين الرواه.

تخيل أن هذه الإشارة تغيرت مع (صدق كل واحد فيهم) فماذا يحدث لو تعمد أحدهم الكذب؟؟!..والتجربة تقول بوضوح: لا تصدق كل ما يقال لك..تحرى بنفسك من الأخبار والمعلومات، شغل عقلك.. لأن صدق الناس لا يكفي لإثبات الحقائق، والعلم لا يكون بالنوايا، والنتيجة المباشرة لتعظيم المحدثين في الفن علاوة على فضائيات السلفيين كانت أولا: نشر الغباء بإنكار التجربة السالف ذكرها، وثانيا: نشر الجهل بترديد أكاذيب وأوهام القدماء على أنها حقائق، وثالثا: إحياء التراث بحذافيره والاعتقاد بضرورة تطبيق أي رواية صحيحة السند أو صح سندها عند بعض المحدثين كما تفعل داعش والقاعدة أحيانا بعرض أدلتها الفقهية عقب بعض العمليات..

لنا عودة..

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقدمة في دواعش الفن المصري (5)

 منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أ...

موقع الباحث سامح عسكر الرسمي