إشكاليات السرد التاريخي لروايات الملاحم

0

 في روايات وملاحم آخر الزمان تُطرَح بعض الأسئلة ، وهي هل في الإمكان أن يشارك المسلم في تلك الأحداث الدرامية كالمهدي والدجال ونزول المسيح ويأجوج ومأجوج وفتح الهند والقسطنطينية وغيرها؟ أم أن المشاركة لم يكن طرحا مقبولا في زمن النص أصلا؟..وبرغم سذاجة السؤال ظاهريا لكنه يحوي معنىً دقيقا وهو التفريق بين الفرص المحققة وغير المحققة..


مثلا عندما ينزل المهدي ويحارب وينتصر بنفس السياق الدرامي العنيف المذكور في الروايات سيكون المسلم وقتها على علمٍ تام بالأحداث والنتائج، وقتها سيكون أمام إحدى خيارين، الأول: أن يشارك في الحدث وهذا لم يُذكَر في الملاحم ولا يتخيله أن يكون جزء من الحديث النبوي، والثاني: أن لا يشارك فيترقب النتائج دون الشك في حتميتها، بالضبط كمن شاهد فيلما دراميا أو أكشن أو رعب وهو يعلم بكل تفاصيله ونهايته لسبق مشاهدته عدة مرات، لكنه منجذب داخليا للسياق كأنه يراه أول مرة..

تلك الخيارات المطروحة تدخل ضمن الفرص المحققة، أي بإمكان المسلم تحقيقها حتى لو لم يشارك في الحدث ..لكن ما لا ينتبه إليه البعض أن هناك جانبا مختلفا وهو الفرصة غير المحققة، أي أنها فرصة لكنها غير قابلة للتحقق وهي أن العالم تجاوز بيئة هذا النص ولم يعد في إمكانه العودة، كوصف المعارك بالسيوف والرماح والسهام والخيول..هذا انتهى، وقانون السببية يتطلب إحيائه - كما قلت منذ سنوات في دراسة المسيح الدجال - أن يلزم ذلك تدمير العقل البشري ليعود إلى نقطة الصفر ليبحث عن سلاحه البدائي، ليس كما يزعم الشيوخ في تحرير تلك النقطة أن الله سيدمر كل الأسلحة المعاصرة..والجواب: أن تدمير السلاح لا يعني تدمير العقل الذي أنتجه، وبإشكالية أخرى أن بدائية العقل لو تحققت ليبحث عن سلاحه من جديد ليس شرطا أن يكون بالسيوف والرماح فلربما العقل البشري الجديد يفطن لسلاح مختلف ولكنه بدائي.

السببية هنا تعني تماسك الطرح وواقعيته، وإشكالية النص الروائي تظل في طبيعته الأدبية الخيالية التي لم تكن حينها بحاجة لسببية كي تقنع الجماهير، فالعالم قبل 1000 عام هذه كانت حياته وحروبه والنص المتماسك يحاكي بالضبط طُرق معيشته، وهذا يفسر كيف أن جمهور وغالبية فقهاء المسلمين لم يشكوا في تلك الروايات حتى بعض المعتزلة الذين خالفوا الجمهور في العقائد ذهنيا لم يخالفوهم روائيا في هذا الجانب لتعلقه بالسياسة، وقد سبق الإشارة في محاضرتي عن المعتزلة كيف ولماذا لم ينكر القاضي عبدالجبار مثلا عقيدة قتل المرتد وأن بعض شيوخ الاعتزال كانوا أصوليين سنة في هذا الجانب..

مما يدل أن النص الروائي في الملاحم كان عشوائيا من الناحية العلمية بينما كان منظما من حيث الجانب الاجتماعي اللائق لجماهير القرون الوسطى، ولولا غياب التفكير بالحدس في تلك العصور لوصل الفقهاء إلى الشك في طبيعة ومعقولية تلك النصوص وأنقذوا مجتمعاتهم من الخرافة والادعاء المتكرر بالمهدوية والمسيحاوية، وفي تقديري أن العقل الحدسي الغائب عن فقه المسلمين هو السبب في غياب العقل الكلي لصالح النقل والتقليد، والمقصود بالحدس هنا أن تنظر للنصوص من خارج الصندوق لا الاستغراق بداخله ومحاولة تفسير كمّ التعارضات والإشكاليات بنفس المنهج التقليد وهو المقاربة الروائية لا أن يجعل الذهن حكماً على هذا الصندوق

والحدس قد يشار إليه بصيغة أخرى هي الوجود، أي كان مطلوبا من بعض الفقهاء أن يهتموا بموقفهم الوجودي من الروايات والملاحم..وفي التراث توجد بعض الإشارات على هذا الموقف الوجودي الشخصي من الملاحم كموقف الإمام "أحمد بن حنبل" مثلا والذي يرفض المغازي والسير والتاريخ ..فادعى تلاميذه أن رفض إمامهم لتلك العلوم سببه غياب السند الكافي للوصل، وبرأيي أن هذا تزوير من موقف الإمام..فابن حنبل كأي محدث عاش في عصر المتوكل ومن بعده لم يقبلوا كتب التاريخ السابقة كأعمال ابن إسحاق والواقدي لإنصافها المذهب الشيعي ومن يسموهم القدرية تاريخيا، وابن حنبل كان له موقفا وجوديا مذهبيا قام على إثره بتكفير الآخرين كما تقدم في دراسة موقفه التكفيري من الإمام أبو حنيفة النعمان منذ سنوات، وهو إمام أهل الرأي الخصم الأشهر لمدرسة الحنابلة..

أما تبرير أتباع ابن حنبل لرفضه المغازي والسير بغياب السند فهو يعود لموقف هؤلاء التاريخي الذي صاغه ابن تيمية وأحيا به فقه المحدثين والحنابلة بالخصوص كعلماء مذهب معتبرين، وهم من كانوا قبل ابن تيمية أصبحوا في عداد المشبهة والمجسمة والجبرية كالدارامي وابن خزيمة والبربهاري، فقد مات هؤلاء في ضمير فقهاء السنة بعد تكفيرهم لكل من لا يقل بمذهبهم أن الله في السماء ووصفوا خصومهم بأوصاف مكروهة كالمعطلة والجهمية وغيرها، حتى قام ابن تيمية باستدعاء أفكارهم وفتاويهم ضمن سلسلة أعمالة الواسعة ومصنفاته التي بلغت المئات مما أعاد للحياه أفكارهم وللمجتمع سطوتهم..

وسبق القول أن إحياء مذهب أهل الحديث في عصره الثاني على يد ابن تيمية أعاد للسردية القديمة في زمن المتوكل هيبتها، فقد أحيا قدسية الصحاح والكتب التسعة وأعاد الاعتبار للسند مثلما أهمله من قبله كابن عبدالبر والبغدادي والغزالي والطبري وغيرهم، حتى أن حياة ابن الجوزي البغدادي بين هؤلاء وابن تيمية كانت كطيف عابر ليس له أثر لشيوع رؤية مختلفة عن الروايات تقول أنها مجرد دليل لفهم الدين وليست أصلا من أصول الدين، مما يعني أن نشاط ابن الجوزي في فحص وترتيب وتهذيب الروايات والخروج بموسوعته عن الضعيف والمنكر لم تشتهر في زمانه والدليل أنها غابت عن معظم أدلة وحجاج فقهاء عصره ومن خلفوه حتى جاء ابن تيمية وأحيا فقه السند مرة أخرى ليعود ابن الجوزي للواجهة ويتم اعتماد علم الحديث كعلم معتبر وأصلا من أصول الدين

وسبق القول أيضا تقسيم عصور الحديث لأربعة، فالأول منها هو عصر البخاري وابن حنبل والثاني لابن تيمية وابن الصلاح والثالث لابن عبدالوهاب، والرابع للألباني والجماعات الذي نعيشه، وقد عمدت إلى تصنيف عصور الحديث بهذا الشكل ليسهل علينا فهم الحقب التاريخية السابقة على هذا النحو كي يتيسر نوعا ما فهم المراحل الوسيطة بين تلك العصور، فالطبري والغزالي والبغدادي مثلا عاشوا في مرحلة وسيطة بين عصريّ حديث لم يلزموا في فهمهم أصول السند، لذلك غابت عن كتبهم دقة علم الرجال وكثرت في مصنفاتهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة، نفس الشئ علماء كالسيوطي وزكريا الأنصاري وابن حجر الهيثمي وغيرهم الذين عاشوا في مرحلة وسيطة بين زمن الإحيائين الثاني والثالث..وهكذا..

برغم أن السردية التاريخية الطبيعية لتراث السنة أضعف في كثير من جوانبها من سردية أصحاب المراحل الوسيطة، فهذا السيوطي الذي ألّف في كل شئ من الفقه والتاريخ والتفسير والجنس يكاد يكون موسوعة علمية مقارنةً بالإمام يحيى النووي، فالثاني اشتهر بالأربعين حديثا في الصحيحين وهو بذلك يكون أقرب لعلماء الحديث وسرديتهم ..لكنه في باب العلم والوعي التاريخي أضعف بكثير من السيوطي لكنه تميز بالتصنيف الفقهي والأخلاقي فقط مما يعني أن النووي حسب معاييرنا الحديثة هو صاحب عقل تحليلي إسلامي مقيد بالمتاح ولا قدرة له على تجاوزه كسائر فقهاء المسلمين القدامى، خلافا للسيوطي الذي يمكن وصفه بالكمبيوتر المتنقل مما ساعده على تجاوز بعض الثوابت السنية في عصره كموقفه من عائلة النبي وعمه أبي طالب وجرأته بالكتابة في الجنس لحد قد نراه حاليا (تجاوزا أخلاقيا) في الدين والعُرف..

هذا يعني أن التقيد بالروايات وأصول تحقيقها في السند لا ينتج فقط جمودا وخرافة أدت لشيوع المهدوية وقلاقل سياسية متعلقة بالعقيدة، ولكن أنتج أيضا انفتاحا علميا لطبيعة الرواية الصادرة من أنفس متعددة لها تفكير نسبي مختلف، والدليل على ذلك أن مثال السيوطي الذي تجاوز بعض ثوابت السنة في عصره تكرر قبل الرجل ب 6 قرون مع الإمام الطبري الذي لم يهتم بالسند واعترف بذلك في مقدمة كتابه عن التاريخ، لكن انفتاحه العلمي أدى به لرفض ثوابت سنية أصيلة كأفضلية أبي بكر عن عليّ بن أبي طالب فقام بتصحيح حديث "من كنت مولاه فعليّ مولاه" وقال بتواتره فكان سببا في إنهاء حياته وضربه من طرف الحنابلة.

ولولا أن السببية في البعد التاريخي غائبة ما حدث ذلك حين قتلوا الطبري أو عندما أحيا ابن تيمية فكر خصومه، وأقصد هنا بالسببية التاريخية هي الربط بين علامات التاريخ الكبرى وأحداثه العظمى المفصلية كمقدمة للربط بين الصغائر والروايات المتوسطة، فحدث تاريخي كبير كسقوط الدولة الساسانية كان يلزمه تجريد هذا السقوط علميا والبحث في أسبابه وكيف أن سقوط الدولة البيزنطية تأخر عن هذا التاريخ 8 قرون متصلة كان فيها الإمبراطور المسيحي قويا، وما العوامل التي أدت لنجاح العرب في دخول مصر والشام وأفريقيا وانتزاعهم من البيزنطيين بينما فشلوا طوال هذه المدة في غزو القسطنطينية، وبينما الرد الشهير موجود بحصانة المدينة وقوتها ومنعتها لكنها بأي حال لن تكون أقوى من حصانة طيسفون الساسانة الواقعة على شرق نهر دجلة..

فقبل أن يسقط العرب بلاد فارس كان لديهم مانعين مائيين قبل الوصول لطيسفون هما الفرات غربا ودجلة شرقا، وضيق مساحتهم عرضا يسهل للطرف المدافع عن نفسه أن يجعل من هذين النهرين موانع مائية كبيرة كما جعلت إسرائيل قناة السويس مانعا لحمايتها، أما القسطنطينية فليس هناك مانعا مائيا يحميها سوى البحر الأسود شمالا وبحر مرمرة جنوبا، ولكي يصل العرب للبحر الأسود عليهم اجتياز آسيا الصغرى أولا هذا على فرض صعوبة الوصول لبحر مرمرة وشدة تحصينه من ناحية بحر إيجة، وبالتالي الطريق كان مفتوحا للعرب لإسقاط البيزنطيين شريطة أن يمروا من آسيا الصغرى للبحر الأسود..وهذا لم يحدث لجهل مؤرخي العرب بأسباب النصر واعتمادهم فقط على الحشد الديني الذي كان الروم حينها يجيدون الحشد بنفس الدرجة على ناحيتين، آسيا الصغرى شرقا وأوروبا غربا

فقبل الانشقاق المسيحي العظيم في القرن 13 م كان مسيحيو أوروبا كتلة واحدة فكان سهلا على إمبراطور بيزنطة أن يحشد دفاعا عن مدينته بوازع ديني، وأن يخلق من بيئته المحيطة حصونا دفاعية عسكرية هي التي عطلت المسلمين طوال 8 قرون عن إسقاط الدولة البيزنطية، وتأثير هذه الأحداث العظيمة تاريخيا كبير حيث لم يتوقف على التغيير السياسي بل عقبه تغيرا كبيرا في الأفكار أدى بعد سقوط بيزنطة إلى هجرة عقول المسيحيين المكبلة تحت إمرة حكم الإمبراطور المركزي الديني لأوروبا الوسطى والغربية فحدثت أعظم نهضة إنسانية في التاريخ والتي يعيشها الإنسان المعاصر، أي لولا سقوط بيزنطة تاريخيا ما تقدمت أوروبا، في حين أن سيطرة العثمانيين على القسطنطينية لم تجعلهم متقدمين بل حُسِبَت إمبراطورية آل عثمان على أشد الدول تخلفا عقليا وعلميا في التاريخ الإنساني

كذلك لولا سقوط بيزنطة ما شعر مسيحيو أوروبا الغربية بالخطر ليجتمعوا على مسلمي الأندلس ويطردوهم في خلال 4 عقود، فكان التعادل سيد الموقف..هزيمة هنا ونصر هناك، بينما هذه الطريقة السببية في التفكير كانت غائبة عن فقهاء القرون الوسطى لتصبح لديهم القدرة على فهم التاريخ الذي هو مفتاح فهم الإنسان وحضارته بشكل عام..

وأختم بأن موقف المسلمين من التاريخ لم يكن مبنيا فقط على جهل به أو بأبعاده وفلسفته، ولم يتوقف على أطماع وأحقاد السياسة أو قصور الإنسان وتعاطيه الغبي مع العالم..ولكن أيضا كان لجهل المسلمين بعلم النفس دور كبير في الجهل بمصدر أخبار الملاحم والفتن والخرافات، فكلما كانت النفس عشوائية غير مرئية كلما كانت معقدة غير مفهومة وبالتالي يصعب التحكم فيها أو الوصول لهيكلها التنظيمي، وأزعم أن علم النفس حين ظهوره أعطى زخما للفكر من تلك الناحية، فبدأ الإنسان يرى عشوائيته النفسية السابقة بطريقة منظمة مفهومة ويربط بين الأسباب والنتائج بشكل صحيح حتى انتشر الطب النفسي المجرب وأصبح ساحة علوم كبيرة ومهمة دخلت في شتى الجوانب العلمية كالدين والمجتمع والسياسة والاقتصاد

وجهل المسلمين بعلم النفس هو مصدر جهلهم بسلوك الإنسان ودوافعه، فعندما نظر الفقهاء في روايات الملاحم والتاريخ مثلا لم يهتموا بالدوافع قدر اهتمامهم بالنتائج وقبول تلك الروايات عقائديا وسياسيا، فحين يقبل الشيخ رواية تاريخية ويرفضها فعن سياسة ومعتقد..لا دخل هنا بالجانب النفسي الأهم الذي في غالب أحواله هو مصدر نشوء تلك الرواية، وفي ظني أن فقدان المعلومة التاريخية أثر بشكل كبير بحيث أعطى للفقهاء المسلمين تبريرا مناسبا لموقفهم والشك في أي نتيجة أخرى حتى لو كانت منطقية وعلمية، وإلى هذا تدور دفاعات الشيوخ عن التراث، فحين يعجزون عن تبرير موقفهم علميا وأخلاقيا يشككون في السردية الأخرى وينزعون عنها صفة الإجماع وفقدان المصدر، بينما نفس هذا السلوك الفقهي يوجه كدليل ضدهم خصوصا وأنهم فئة تعتقد بالأغلبية والإجماعات لاسيما أن هذه الطريقة في الاعتقاد يسهل دحضها بعرض واكتشاف الرأي الآخر أو أي تأويل عارض مختلف..

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقدمة في دواعش الفن المصري (5)

 منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أ...

موقع الباحث سامح عسكر الرسمي