منذ أيام انشغل الوسط الفني والثقافي والشعبي المصري بتصريحات الفنان "يوسف الشريف" التي يقول فيها برفضه القاطع ملامسة أي فنانة أو أنثى في أعماله، وبعد الهجوم والاستنكار غيّر أقواله لمعنى آخر أكثر قبولا وشهد بأنه يقصد المشاهد الساخنة تحديدا لا مجرد التلامس..
وقد عمدت إلى تضمين مناقشة هذا التصريح في سلسلة دواعش الفن لما يتضمنه من إشارات وأبعاد لها علاقة بما أسميه ب "الفن المحافظ" أو التشدد والمبالغة في الالتزام الأخلاقي والتعارض بينه وبين مهنية الفنان أحيانا، أو علاقة ذلك بحرية الشخص واحترام معتقداته وميوله أيا كانت، ولرأيي الحاسم بأن هذه المشكلة قد تخدم المتشددين ودواعش الفن بشكل مباشر أو غير مباشر، لاسيما أن التشدد الأخلاقي في الفنون كاتجاه إنساني قد يعيق حركة الفكر عن الإبداع والنقد ودور العقل الفني في تمثيل القضايا للجمهور بشكل صحيح، مما يصب لاحقا في صالح التيار المتشدد المعادي للفنون بحجة انحلالها أو سفورها الديني.
القضية معقدة أوسع من تصريح لفنان، وقبل مناقشتها أستعرض هذين الرأيين:
الأول: مؤيد للفنان وهؤلاء إما رجال دين أو ممثلين وكتاب شباب نشطوا في مرحلة السينما النظيفة منذ بداية الألفية الثالثة كآيتن عامر وناهد السباعي ومحمد أنور وغيرهم، أي لو كانوا ممثلين قدامى عاصروا سينما الانفتاح منذ نشأتها في الثلاثينات لمدة 70 عاما لكان لهم رأيا آخر، وموقف رجل الدين معروف فهو متحفظ بالطبيعة ولا يمتهن الفنون فرأيه إذن تحصيل حاصل ومعبر عن مؤسسة فقهية إسلامية ترفض التمثيل والموسيقى ولا تذيعها في برامج إذاعة القرآن كمثال..
وقد وقفت على رأي خاص للفنانة صوفية ضمن هذا الفريق له وجاهته الفكرية بأنه يعالج آفات ورواسب ظهور الممثلات "منى فاروق وشيماء الحاج" الإباحي سابقا، فقد ارتبطت في ذاكرة الجمهور مشاهد هاتين الممثلتين بحقيقة الفن الداعرة التي كان يحكيها الشيخ كشك ووجدي غنيم وشيوخ الصحوة الإخوانية، وبالتالي تصريح يوسف الشريف هو تنزيه في حقيقته للفن من تلك الصور المنحرفة وإعادة الفن لمساره الطبيعي وللتمثيل حجمه المناسب بالدور الثقافي التوعوي الذي لا يتطلب انحرافا أخلاقيا جنسيا كما يتصور أعداء هذا المجال، وقد فردت مساحة خاصة لرأي صوفية لتضمنه رؤية ثقافية شاملة وليس مجرد رأي مختصر ووجودي كالأسماء السابقة الذين سيُحسب رأيهم على أنه ميول شخصية أو مصالح مادية مع الممثل.
حجة هذا الفريق في الحرية الشخصية المقدسة للممثل، وهذا لا غبار عليه، فمن حق يوسف الشريف أن يختار العمل الفني المناسب له ولظروفه الشخصية والأسرية..أما إسقاط تلك الحجة فكريا ومناقشة أبعادها فقصة مختلفة، أذكر أن العديد من الفنانين رفضوا هذه المشاهد أو التلامس بتعبير الفنان كإسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي وغيرهم، فإذا قيل أن هؤلاء ليسوا بالوسامة التي تقنع المشاهد بقبولهم الرومانسي أو صعوبة إقناع فنانة بتقبيله فما بالكم بفؤاد المهندس الذي لم يرفض تلك القبلات وأداها في العديد من أعماله هو ومعظم نجوم الكوميديا كالريحاني ومحمد عوض وغيرهم ممن يمكن وصفهم بعدم تمتعهم بصفات الجان السينمائي شكلا أو الوسيم المرغوب فيه أنثويا..
وبرأيي أن حجة ذلك الفريق قوية ليس فقط لمساسها بمسألة الحريات الشخصية المقدسة، ولكن لأنها طبيعة إنسانية وجدت في أعظم سينمات العالم في هوليود، وقد وقفت على مواقف لنجمات كديانا لين وهال بيري وكاترينا جونز باتجاه سينمائي محافظ بعد أعمال خالدة عرفوا فيها بمشاهد البورنو، كفيلم الخائنة لديانا لين وريتشارد جير سنة 2002 وكرة الوحش لهال بيري في نفس العام والذي حصلت فيه بيري على جائزة أوسكار وجولدن جلوب، وكلا العملين جرى تخليدهم بأجرأ مشاهد جنسية في هوليود ومنذ هذا التاريخ رفضت كلا النجمتين أي مشاهد ساخنة على نفس الدرجة ليختلف حضورهم السينمائي إلى محافظة شبه تامة..
وهذا عندي حجة بظنون نفسية عند النجمات بعدم قبولهم مشاهد البورنو أو أن يعرفهم الجمهور في هذه الصورة التي وبرغم انفتاح أمريكا السينمائي إلا أن صناعة السينما فيها تعد أكثر محافظة من سينمات أوروبا الغربية والوسطى التي تكثر فيها تلك المشاهد بواقعية مفرطة، وأتذكر تصريح النجمة الأسبانية "فيكتوريا أبريل" حين حضورها لحفل افتتاح فيلمها في مهرجان سينمائي مصري أنها صدمت بمغادرة المصريين قاعة السينما بمجرد مشهد ساخن في الفيلم، وقالت أن هذا شئ عادي في أسبانيا وتعذر المصريين لتحفظهم وتحترم ثقافتهم..وقد ثار فضولي لمعرفة السبب فوجدت الصحف تنقل الخبر بظهور أعضاء الممثلين في المشهد مما يعني واقعيته المفرطة كمشاهد البورنو، فلو كان ذلك مقبولا في سينمات أسبانيا فهل سألنا عن حقيقة قبوله في سينمات صربيا مثلا أو أوروبا الشرقية؟..وبرغم علمي بالجواب لكني أتركه للقارئ.
مما يعني أن حجة أو دعوى يوسف الشريف قد تتجاوز هنا حاجز الحرية الشخصية إلى فرض نمط سينمائي خاص به لا يرتبط في ذاكرة الجمهور بأي انحلال، ولا يعني أنه يتضمن طعنا في الممثلات وعرضهن أو كرامتهن بالضرورة، خصوصا وأن ظاهر التصريح من الممثل قد يشي بأنه يتعامل مع عاهرات يعرضن عليه اتصالا جنسيا أمام الشاشات وهو يرفض..وقد علقت في ذاكرتي حجج أحد المعترضين أن ذلك هو اتهام بالعهر للوسط الفني فقلت ولما نفسره بهذا الشكل ولا توجد امرأة في العالم تدعو لهذا الاتصال العلني سوى ممثلات البورنو الذين يعيشون في عالم خاص بهم منفصل عن السينما الطبيعية، أو عدم إدراك لخصوصية الجنس في الثقافة البشرية وعدم الاستمتاع به في العلن.
أما الفريق الثاني المعارض: وحجته أن تصريح الشريف هو تدمير الحاجز بين الواقع والتمثيل، فكل ممثل يشتهي زميلته في الواقع سيشتهيها في الفن، ومن ثم فتصريحه هو تصديق لدعوى الشيوخ بحُرمة التمثيل والفنون وأنه خلط بين معتقدات الممثل الدينية والأخلاقية وبين العمل الفني وتشجيع على المحافظة والتشدد في السينما المصرية أكثر مما هي عليه الآن، ومن هؤلاء خرج الناقد طارق الشناوي والمخرج مجدي أحمد علي وغيرهم يرفضون التصريح ويحذرون من تبعاته، ولو أن هذا الرأي له وجاهته العلمية لكنه يقفز على مواقف فنانين رفضوا تلك الأدوار في السابق أذكر الفنانة "سهير المرشدي" في فيلم "رغبة متوحشة " سنة 1991 التي قالت فيه بالحرف أنها رفضت الاندماج أو تقبيل البطل بشكل صحيح أمام الكاميرا، وأصرت على عدم تكرار المشهد وتأديته كما طالبها المخرج "خيري بشارة"
على النقيض من ذلك أنه وفي فيلم " عفوا أيها القانون" نجد الفنانة هياتم تقبل بدور المشهد الساخن مع محمود عبدالعزيز، وبعد اتفاق مع مخرجة العمل إيناس الدغيدي بعدم حضور زوج هياتم في التصوير كي لا تجرح مشاعره في رؤية زوجته بين أحضان فنان بمشهد جنسي واقعي صنف أنه من بين أكثر المشاهد الجنسية إثارة وجرأة في السينما المصرية، وموقف هياتم وإيناس من الزوج يدل على أن الحاجز بين الواقع والتمثيل لا يمكن إيجاده كحقيقة أو وهم بهذه البساطة، فالإنسان يقدس جدا ممتلكاته، والزواج والحب هو عقد ملكية صوري لكلا الطرفين يشهد كل طرف بأنه ملك للآخر ولن يشاركه أحد، لا كما يقول الشيوخ أن عقد الملكية الصوري هذا يكون فقط للزوج بأحاديث لعن الملائكة وخلافه..لكن العقد هو للطرفين بإقرار المساواه التامة..
موقف سهير وهياتم يدل على أن التمثيل حرية شخصية وقبول أو رفض الفنان لبعض المشاهد يندرج تحت باب هذه الحرية، فمثلما ترفض فنانة القيام بهذا الدور تقبله أخرى، ومثلما يرفض يوسف الشريف هذه الأدوار سيقبله آخرون مثله..ومن هنا لا تعارض بين طبيعة الفن التي تفصل بين الواقع والتمثيل وبين حرية الممثل في اختيار أدواره..وقد تعمدت السكوت في هذه القضية وعدم التعليق لحين انجلاء الصراع ووضوحه بشكل تام للقارئ..فطبيعة السوشال ميديا أو صحافة الإنترنت أن الجمهور يميل غالبا لرأي الأغلبية أو السائد في صفحته ومجتمعه الافتراضي أو الواقعي، وبالتالي مناقشة هذا الأمر بعقل وحكمة سيكون أمرا صعبا لتعزر الأجواء المناسبة..
أما علاقة هذه القضية بالدعشنة فأشير إلى أن الفريق المؤيد يجب أن يفصل بينه وبين رؤى رجال الدين المؤيدة له والمُحرّمة للفن، على الأقل كي لا يُحسَب موقفهم على أعداء التمثيل والإرهابيين من الجماعات..مثلما أخذت تصريحات يوسف الشريف تقييما إيجابيا كبيرا بين جمهور الجماعات والإسلاميين وشعوب الخليج المحافظة، وقد يؤدي ذلك لردة فعل يُحسَب خلالها الشريف على هذا التيار برغم عدم تيقني بأنه يتبعه بشكل مؤكد، ومبعث تشكيكي أن الفنان له تصريحات سابقة يدعو فيها للصلاه وترك أفلامه حين انقضائها، وقد يعني هذا التصريح منه عدم احترام أو إدراك للفنون بأنها لا تتعارض مع الأديان والشعائر، فمثلما تمثل في أي وقت..يمكنك أيضا الصلاه في أي وقت، فلو تشدد يوسف الشريف في الصلاه لوقتها نكون قد وقفنا أمام شخصية سلفية تقدم معتقدها الشخصي على الفن فعلا..وما تصريحه بعدم التلامس أو رفض المشاهد الساخنة إلا ترجمة لهذا المعتقد المتشدد الذي قد يؤدي لاحقا لتطور أكثر عنفا ووضوحا بازدراء ممثلين وأعمال وزملاء له..ويكون الشريف قد تورط مثلما حذر خصومه في مستنقع التشدد الديني.
الحسنة الوحيدة هنا أن جمهور الإسلاميين المؤيد ليوسف على السوشال ورجال الدين قد احتجوا (بالحرية) لأول مرة لدعم فنان يخدم وجهة نظرهم، وهي مفارقة تتطلب منهم الاعتراف بقداسة الفن وطهارة التمثيل كرسالة من باب الحرية أيضا، وضرورته كأداة إصلاحية لتقويم الشعوب وتثقيفها، وبرأيي أن هذا الجمهور لن يعترف ولن يدرك أنه مُسيّر كرد فعل لمواقف غيره دائما، فهو إما يعترض على تصريح متحرر أو يؤيد تصريح محافظ وبأسلوب مشخصن بعيدا عن التحليل العقلي المستقل ، وأحذر أنه وكلا الأمرين مع فتاوى رجال الدين يحشدون العامة ضد الفنون أكثر وأكثر، وعليه فتكرار أزمة الشريف ودخول رجل الدين كالعادة وجمهوره المتدين سيخدم النزعة المحافظة بالفعل وتتحول مصر للأسوأ فنيا حتى تصل البلاد لحالة استنكار تام لكل ما هو فني..
مهم أن يؤيد من يؤيد على ثقافة ويعارض من يعارض عن ثقافة أيضا، ولا ألتفت للاتهامات هنا وهناك كدعوى المؤيدين للمعارضين بالانحلال ودعوى المعارضين للمؤيدين بالدعشنة..هذه مبالغة وقعت في إشكالية "الأبيض والأسود" وعدم تناول المشكلة بوجهة نظر علمية واقعية وإدراك حقيقي للطبيعة البشرية أو لمعنى الفن أحيانا، وقد عرضت وجهة نظري بعيدا عن شخص يوسف الذي لا يهمني بحال أو تاريخه الذي أحرص على عدم تناوله أو التأثر به في سياق هذه القضية خشية التأثر به والتحليل بناء على قناعات مسبقة..
فالفنون جميعها – ليس فقط التمثيل – بين محافظة وانفتاح، فمثلما يوجد في الشعر والأدب اتجاه محافظ يوجد أيضا متحرر قد يصل للبُعد الأيروسي، ومثلما يوجد في الرسم والنحت أيضا محافظة يوجد تحرر قد يصل لرسوم إباحية وصلنا منها الكثر من حقبة القرن 19 في أوروبا، إذ انشغل بعض الرسامين وقتها بتصوير الجنس في أعمالهم..ليس مجرد الجنس الطبيعي لكنه المتحرر أيضا، ونفس الشئ في الثقافة تجد فيلسوف متحفظ والآخر منفتح..وفي السياسة يوجد حزب محافظ والآخر منفتح، والإشكالية التي قد لا ندرك بها تلك الثنائيات أن نستسلم تماما لوجهة نظر أحد الفريقين ولا ننظر في الدعاوى الأخرى التي تتكأ على حجج وأدلة ربما تكون أكثر منطقية وعلم.